يخطئ من يظن بأن انتخابات 12 ديسمبر 2019 بالجزائر وإعلان "عبد المجيد تبون" رئيسا للدولة سينهي حتما احتجاجات مواطنيها، ويطوى صفحة الطلب على الحرية والديمقراطية ومن أجل دولة مدنية محصنة من تدخل جنرالات الجيش ورجال الأعمال في السياسة والحكم.
وكثيرا ما يقال أن صناديق الانتخاب قد تطفئ وهجالثورات وربما تخون أهدافها، لكن ثمة شواهد تنبئ باستمرار الحراك أو الثورة في الجزائر. ولا تتوقف هذه الشواهد على المظاهرات الحاشدة التي عادت لتندلع أمس الجمعة يوم الإعلان الرسمي عن نتائج الانتخابات الرئاسية حيث ارتفعت شعارات "حنا ما فوطيناش .. تبون ما يمثلناش"، أي نحن لم نصوت و"تبون" لايمثلنا، بل وأيضا لأن التناقضات ظاهرة في صفوف السلطة ذاتها التي تتعامل مع الحراك.
في فبراير 1985 كانت أول زيارة قمت بها كصحفي مصري إلى الجزائر موفدا من مجلة "الطليعة" التي رأس تحريرها وأسسها الراحل الأستاذ لطفي الخولي، وفي الطريق إلى مخيمات جبهة "البوليساريو" في الصحراء الغربية عشت لأسبوع أو يزيد في العاصمة انتظارا لتحسن الطقس وهدوء الرياح. ولفت نظري سريعا كم التناقضات بين الشعارات الرسمية عن "التحرر الوطني" و"الاستقلال" و"الاشتراكية" وبين واقع المواطنين الجزائريين البائس وشباب البلاد العاطل المهمش الذي يقضي ساعات طوال كل يوم في انتظار الهجرة أو المجهول إلى جوار الحيطان. هؤلاء الذين يطلق عليهم "الحيطيين". أما رائحة السخط في الشوارع والأزقة فكانت تصدم زائري البلد.
وتعرفت حينها على الكاتب والروائي الراحل "الطاهر وطار"، و استدعاني مع الصديق والزميل الكاتب الصحفي والروائي العراقي "زهير الجزائري" على الغذاء في منزله. تحدث بصوت هامس وبأسى عن مآل جزائر ثورة المليون شهيد على أيدي "رفاق التحرر الوطني" سواء من قادة الجيش أو حزب جبهة التحرير الوطني. وروى كيف تحول العديد منهم ومن تابعيهم الى "قطط سمان"، مستخدما تعبيرنا المصري في السبعينيات. وكيف حولوا مقدرات الدولة ومرافقها إلى موارد للاستثمارات الخاصة المفتوحة على الشراكة مع الفرنسيين وغيرهم! وكيف انتشر الفساد في مفاصل الدولة بأسرها؟.
كانت هذه الزيارة الأولى، التي لم تغادر تفاصيلها ذاكرتي، بعد نحو 6 سنوات من تولي العقيد "الشاذلي بن جديد" رئاسة الجزائر خلفا لـ"هواري بومدين" وزير الدفاع الذي اصبح رئيسا بدوره بعد أن اطاح بأول رئيس للجمهورية "أحمد بن بله" في انقلاب عسكري صيف 1965، معززا سيطرة جناح "جنرالات جيش التحرير" على السلطة ومقصيا المدنيين. وبعد هذه الزيارة بنحو سبع سنوات وتحديدا في 11 يناير 1992 استقال "بن جديد" أو أقاله جنرالات الجيش والمخابرات الذين جاءوا به. ولكن بعد سلسلة من الاخفاقات و الصراعات والحماقات بالإرهاب والمجازر، وأدخلت الجزائر الى "العشرية السوداء" التي يقال بأن نحو مائة ألف شهيد راحوا ضحيتها. وثمة هنا الكثير الذي يقال عن جرائم الجنرالات تماما كجرائم الإرهابيين المتسترين بالإسلام والقرآن والسنه. و من يحب ايضاحا ليرجع الى العديد من الكتب المنشورة، ومنها كتاب ضابط المخابرات والعسكري السابق "الحبيب سويديه" المعنون بـ"الحرب القذرة".وهذا الكتاب شهادة على جانب من الأهمية لفهم كيف يجرى استخدام الإرهاب وتوظيفه من أجل دوام الاستبداد والنهب والفساد تحت لافتات وشعارات الوطن والوطنية. وكيف لا يخلو الأمر من استغلال وتوظيف خطر الإرهاب ومحاربته.
وأعود إلى اللحظة الجزائرية الراهنة حيث أصبح للبلاد رئيس جديد. وقد تابعت على مدي الخميس والجمعة 12 و 13 ديسمبر الجاري إلى جانب ردود فعل الناس هناك في الشوارع، كامل بيانات ومؤتمرات "السلطة المستقلة الوطنية للانتخابات" والإطلالة الإعلامية الأولى للفائز "عبد المجيد تبون". تابعت فلاحظت وبسهولة التناقضات في خطاب "السلطة" ومن الجانبين، وبما يتنافي مع الوعد بالتحول الى "جزائر حرة ديمقراطية". وعلى سبيل المثال، تحدث الرئيس الجديد عن "العصابة "مستعيرا خطاب الثورة في الشارع وعن تحكمها في البلاد، لكنه لم يوضح أبدا علاقته مع هذه "العصابة" ومواقفه منها. وقد ظل هو نفسه شريكا في المسئولية في عهد بوتفليقه واليا (محافظا) ووزيرا ورئيسا للحكومة لنحو ثلاثة أشهر فقط خلال صيف 2017. ولم يوضح أيضا: هل للعصابة امتداد داخل المؤسسة العسكرية؟.
كال المديح للحراك بتحفظ. كما كاله بلا تحفظ لقائد الجيش رئيس الأركان الجنرال "أحمد قايد صالح" ( 79 سنة) الذي يشغل موقعه هذا منذ 15 عاما. غازل الشباب وتوعد بفتح حوار حول "تعديل عميق "على الدستور أو دستور جديد، لكنه وهو البالغ من العمر(74 سنة) لم يشر مطلقا إلى توجهاته بشأن مدد رئاسة الدولة (سنوات العهدة الرئاسية وكم من المرات يسمح للرئيس بالترشح للمنصب). وفقط في برنامجه الانتخابي اكتفى بكلمات سريعة مبهمة هي :"تحديد عهدات الرئيس"، ودون أن يشير إلى تلاعب بوتفليقه ومنافقوه بالدستور وتعديله في 2008 لإطلاق مدد الرئاسة بعد أن كانت محدده بمدتين فقط، ثم العودة في 2016 الى مدتين فقط، كل منها خمس سنوات. وهكذا كان مفترضا أن يبدأ احتساب المدتين من نقطة الصفر ليمر الرئيس المقيم منذ 1999 إلى عهدة جديدة خامسة.
وبالنسبة لسلطة الانتخابات في الجزائر، فقد بدا التناقض ظاهرا في خطاب رئيسها "محمد شرفي" (73 سنة)، فخلط بين السياسي المنحاز والتقني المحايد. واستخدم عبارات دعائية ترويجيه للتقليل من شأن المقاطعة والإحجام عن التصويت وللمبالغة في كثافة وأهمية المشاركة، والتي لم تتخط اجمالا نسبة الأربعين في المائة كما هو معلن رسميا، أو من قبيل :"الهدف الأسمى اعطاء الجزائر رئيسا لتمكينها من بناء الاقتصاد واصلاح النسيج الاجتماعي الذي اصبح هشا من جراء الأزمات". كما لم يجب على اسئلة صحفية جادة من قبيل: لماذا تأخر الإعلان عن النتائج فيما راجت تسريبات من داخل سلطة الانتخابات وحملات مرشحين بجولة إعادة ثانية؟، وكيف يمكنكم كهيئة إقناع الجزائريين بأن الانتخابات كانت شفافة ونزيهة؟.
واقع الحال أن شكوكا أحاطت من البداية بتشكيل "سلطة الانتخابات". وإذ لا يكفي ـ عند المتشككين ـ مجرد إطلاق وصف " مستقلة" لتصديق أنها بالفعل هكذا. وهذا لأن الجزائريين ينظرون إلى ما جرى ويجرى في تونس إلى جانبهم من مرحلة انتقالية بمؤسسات مستقلة بحق، بما في ذلك "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات". هذا لأن رئيس السلطة الجزائرية للانتخابات المعين بالأصل من رئيس الدولة المؤقت "عبد القادر بن صالح"( 78 سنة) أحد رجالات "بوتفليقه" وعهده. و"شرفي" بدوره كان من بين المسئولين التنفيذيين مستشارا لرئيس الدولة، و كذا وزيرا للعدل في حكومات ترأسها من صدرت قبل أيام قليلة ضدهم أحكام سجن مدانين بالفساد، ولأنهم من " العصابة".
وبشأن سياق هذين الخطابين المحملين بالتناقضات لـ"تبون" و"شرفي" يلفت النظر تصفيق الحضور في هكذا مؤتمرات صحفية، وبما يناقض طبيعة المناسبة واعتبارات ممارسة المهنة. وهو ما يعكس طبيعة الهيمنة السلطوية وغير الديمقراطية على الصحافة والصحفيين. وهذا السياق بالطبع يخرج بالمؤتمر الصحفي عن طبيعته ليقترب من ضجيج المؤتمرات السياسية التعبوية المتخلفة عن أحوال عصرنا وزماننا.
ومع كل هذه التناقضات التي لا تبشر بديمقراطية ناجزة بعد، يستحق التأمل عنوان بيان 19 شخصية جزائرية وازنة صدر في العاشر من ديسمبر الجاري .وهو "الرئاسيات محطة سيتجاوزها الحراك". وفي كل الأحوال فالأرجح أن هذه الإنتخابات الرئاسية لن تغلق كتاب التغيير في الجزائر، أو تدخل به الى محطته الأخيرة. والكثير هنا قد يتوقف على عوامل متعددة منها تحركات الاحتجاج والمطالبات في الشارع والفضاءات العامة وابتداع اساليب جديدة في الفعل والتنظيم الجماهيري، وأيضا أداء الرئيس الجديد "عبد المجيد تبون" ومبادراته وممارساته في المستقبل القريب وقدرته على التجاوب مع مطالب الحراك. وكذا التفاعلات داخل مؤسسات سلطة الدولة، وبخاصة المؤسسة العسكرية سواء من داخلها أو تلك التي سيجرى فرضها عليها من خارجها .
ومن السذاجة تصور أن الثورة من أجل "جزائر حرة ديمقراطية" كما لم يمل المتظاهرون من المناداة بها منذ 22 فبراير 2019 قد طويت صفحتها، أو انها انتهت حتما إلى الفشل. فهي حقا انجزت الكثير والخطير مما كان بمثابة مستحيلات في مطلع هذا العام، ومن بينها قطع الطريق على العهدة الخامسة لبوتفليقة وتقديم جانب من العصابة للمحاكمات. لكن أمامها ما هو أكثر وأخطر. ومازال الصراع مفتوحا.
--------------------------
بقلم: كارم يحيى