28 - 03 - 2024

حتى"العشش والطوف"ياحكومة!.. بسطاء وجدوا أنفسهم أمام مطالبات مالية خيالية بمقتضى القرار الوزاري 280

حتى

فلاحو اليوم يحلمون بـ "ماعت" لعله ينقذهم من القرار الجائر
- القرار يساوي بين المستثمرين أصحاب العوامات وبين عشش صغار الفلاحين
- المطالبة بـ 15 ألف جنيه عن مساحة 200 متر من أرض المنافع بعد أن كانت 500 جنيه قبل سنوات معدودة

يشكو الناس في بر مصر من ثقل يد الحكومة عليهم وعلى جيوبهم، فيما تتدهور الخدمات الحياتيه الضرورية.لم يعد التعليم كالماء والهواء ولا الصحة حق للجميع. ولا الفقر عار على الأمة، وداء معالجته مسؤولية الدولة. فلا هذا ولا ذاك، ولو في الوعود والآمال والأحلام. ونسى أو تناسى المسئولون ومعهم البرلمان نصوص دستور 2014  والنسب المئوية المحددة بها من الناتج القومي الإجمالي، واعدة بتحسين أسس الحياة للمواطنين والوصول بإنفاق الدولة على الخدمات الأساسية إلى المعدلات العالمية. 

لكن آخر ما يمكن تصوره أن تمتد أيدي وزارة الموارد المائية والري في "حكومتنا السنية" لتهتك الجيوب المثقوبة بالملابس المهترئة لأفقر الفلاحين من شاغلي "العشش والطوف" فوق أراضي منافع الترع والمصارف بطول الوادي الحزين. 

في معاجم اللغة تعني "الطوف" الجدار الذي يحيط بمساحة أرض أو بالأدق "العيدان التي يشد بعضها فوق بعض". أما "العشش" فهي بالمعاجم كوخ، وفي ثقافتنا المصرية دائما أقل شأنا من البيت والدار. وكأنها أكثر السكنى بؤسا، وإلى حد أنها تليق أيضا بالدواجن والبهائم. 

أما خارج الكتب والأوراق والمكاتب، فيكفي نظرة من القارئ على الصور المرفقة بهذا النص . وهي من زيارة لقرية "الزرابي" بمحافظة بني سويف.و كمجرد نموذج لهموم مواطنين مصريين لايتوافر إلى حينه احصاء عن إجمالي عددهم بطول وادي النيل و ترعه ومصارفه. هؤلاء البسطاء الذين وجدوا أنفسهم فجأة أمام مطالبات مالية خيالية صادمة بمقتضى قرار جديد من وزير الموارد المائية والري رقم 280بتاريخ الأول  من اغسطس 2018، ونشرته الوقائع الرسمية بعدد 241 الموافق 24 سبتمبر 2018 تحت عنوان :" تعديل فئات مقابل الإنتفاع بالأملاك العامة ذات الصلة بالري والصرف (منافع الترع والمصارف) باللائحة التنفيذية لقانون الري والصرف رقم 12 لسنة 1984" .

 والاطلاع على ديباجة القرار تفيد بأن زيادات طرأت على مقابل الانتفاع انطلاقا من عام 2006. وتلاحقت خمس مرات قبل القرار الجديد الصادم. هي زيادات جاءت مع عام 2010. وعادت في 2014. ثم بقرارين وزاريين في عام واحد 2015، وتلاهما قرار قبل أخير مع عام 2016. والواضح من القرار الأخير لعام 2018 أن الزيادات تجمع ألوانا متباينة مختلفة من الانتفاع والمنتفعين من شغل "أراضي المنافع". ومن الغريب والفاقد للحس الاجتماعي أن تجمع سلطة في قرار واحد بين المستثمرين أصحاب العوامات والنوادي السياحية والسيارات في ساحات الإنتظار على النهر الخالد الساحر بالعاصمة والمدن وبين فقراء الفلاحين الغلابة الذين قابلتهم على حواف المصارف البائسة في "الزرابي". بل من الأغرب أن تساوى في الأعباء المالية بين هذا وذاك. ناهيك عن أن تزيد العبء على ساكني "العشش والطوف" وتعاقبهم وقد توارثوها فاقة وبؤسا أبا عن جد بأربعة أضعاف الرسوم المحددة في نص القرار نفسه إزاء البناء سابق الترخيص خارج المدن وبضعفين إثنين للبناء داخل كردون المدن، وذلك "في حالة الاشغال بالمخالفة للأملاك العامة ذات الصلة بالري لحين التصريح أو الإزالة". ولقد عاينت بعيني هذه"العشش والطوف " شديدة البؤس، وقد سمحت الدولة بادخال الكهرباء وعداداتها إليها، ومن عشرات السنين. 

أطلعني سكان " العشش والطوف"ـ بعد أن آلمني ألا توفر لهم الدولة السكن اللائق كحق انساني ودستوري جيلا بعد جيل وحتى مصر 2019 ـ على ايصالات من الضرائب العقارية سقطت على رؤسهم هذا الخريف كضربات قدر أسود مخيف، بل ومجنون. وعلى سبيل المثال، فإن ورثة "عزوز الشاويش" كانوا يدفعون في السنة الواحدة عن مساحة 300 مترا من أرض المنافع قبل سنوات معدودة 500 جنيه في السنة ثم 1500 جنيها آخر مرة. وها هم مطالبون اليوم بدفع 15 ألفا ومهددون بالطرد. هم خمس أسر من ورثة "عزوز" يسكنون في هذه المساحة المحدودة على المصرف مباشرة .وهنا لا زراعات تصلح . لكن القليل من المواشي يجرى تربيتها، وتقتسم المساحة ذاتها مع ساكني العشش والطوف. وتكتشف قسوة " الطامة الميري" عندما يخبرك "آل العشش والطوف" هنا بأن سعر "البهيمة" جاموسة أو بقرة انخفض إلى النصف عن العام الماضي. 

تتجول في " الزرابي" في عز النهار فتلاحظ معظم المحلات المتواضعة بالقرية مغلقه . تسأل، فتأتيك اجابة مصحوبة بشفقة: "أصحابها يخافون الحكومة.. لأنهم أصبحوا مطالبين فجأة بـ 230 جنيها عن المتر الواحد". يصادفك "أحمد كامل" صاحب "عشة" على أرض المنافع بمنطقة "الدوية" فيخرج لك "من عبه" شكواه وأوراقه، وكأنه في حال استعداد دائم للمداهمة. أو تشغله شكواه ليل نهار. عنده 376 مترا مسجلة وبحيازة من وزارة الري منذ 37 سنة، ومنها مساحة خالية لا تصلح لشيء. وقبل أسابيع، جاءوا ليفاجئوه بإيصال 14 ألف و660 جنيها عن  السنة القادمة. فكيف يدفع، و" والله غالب.. وحسبي الله ونعم الوكيل" . 

يعجز سكان "العشش والطوف" عن السداد. ينكمشون داخل ملابسهم المتواضعة وجدران البوص البائسة على ضفاف المصارف راكدة المياة، والتي وكأنها لم تجد سلطة منذ زمن تعتني بتنظيفها كما يجب. هو الشتاء قادم إلى جانب الخوف من المستقبل. وهو أيضا شعور بالغبن والظلم يتراكم فوق الإهمال والترك. وثمة استغراب لما يجرى هنا وحولهم، وبخاصة حين يطالعون على شاشات التلفزيون اعلانات القصور والفيلات وشقق النجوم المتعددة بالمدن الجديدة بعيدا في عمق الصحراء، وقد امتدت إليها من كل صوب وحدب الطرق الفسيحة الحريرية.

والثلاثاء الماضي 19 نوفمبر من العام 2019  ذهب المواطن "جمعة طه عبد العال" منهكا مهدودا من رحلة سفر قصيرة عبر طرق غير ممهدة او مهملة حافلة بالحفر  بصحبة عدد من جيرانه سكان " العشش والطوف " بالزرابي إلى محكمة مجلس الدولة بعاصمة المحافظة بني سويف ليعلموا بأنها في انتظار تقرير المفوضين. هذه هي ثاني جلسات الدعوى رقم 2459  التي رفعها طلبا لالغاء القرار الوزاري وللرحمة والعدل. سطور عريضة الدعوى تصرخ بأن القرار الوزاري الأخير رفع  ايجار متر العشش والطوف في الشهر من 50 قرشا عام 2010 إلى 48 جنيها أي 96 ضعفا. وتلك المخصصة لأغراض الزارعة من 30 قرشا إلى أربعة جنيهات، وقبلها كانت معفاة تماما من أي اعباء مالية. وتستغرب الدعوى أن يفرض القرار الوزاري عقوبة مالية ومضاعفة أربع مرات بدون حكم قضائي أو نص قانون صادر من برلمان. وتسجل أمام محكمة التاريخ والعقل والمنطق أنه بالمقابل ارتفعت اسعار وقود ومدخلات الزراعة إلى مابين 700 و 960 ضعفا في بضع سنوات معدودة ليس إلا . هكذا وكأن الدعوى تبحث بعيون كليلة في شكوى "الفلاح الفصيح" عن "ماعت" إله الحق والعدل عند اجدادنا المصريين القدماء.

 دعوى هؤلاء الفلاحين البسطاء هذه عند " المفوضين "كي تضع تقريرها من دون أن تحدد محكمة مجلس الدولة بعد جلسه للشق المستعجل أو لنظر الموضوع. لكن وتحديدا بحلول 10 و11 ديسمبر 2019 تعقد محكمة جنح بني سويف أولى جلسات النظر في اتهام نحو عشرة من أهالى "الزرابي" من أراضي المنافع بتبديد منقولاتهم، والتي عرفوا فقط من إعلانات قلم المحضرين إليهم بالجلسة بأنها دخلت الى حركة أوراق سريعة بعيده عن أعينهم بين مكاتب الضرائب العقارية والنيابة بعاصمة المحافظة من إنذارات بالدفع واجراءات حجز على المنقولات و....

وبعيدا عن المحكمة والعاصمة مدينة بني سويف، يضحك الصغار وهم يلعبون حول "العشش والطوف" على حواف المصارف راكدة وقذرة المياه. يتحدثون عن "الوابور" القطار هناك. ويمثلون معا كيف خرج عن مساره وقضبانه ليأتيهم مسرعا بلا كوابح هنا. وفي لحظة بدا وكأنهم يخشون مداهمته لسكناهم المتواضع البائس ولأحلامهم. فيبدأون بهمة في تجريف الطين بأيديهم الصغيرة آملين في بناء "سد عال " أمام " العشة" يحميهم وأمهاتم وآبائهم وجدودهم واخوتهم.. وزمنهم القادم .  
-----------------------
الزرابي / بني سويف ـ بقلم: كارم يحيى 








اعلان