25 - 04 - 2024

بحبر الروح| إرث يلتهمه المجهول

بحبر الروح| إرث يلتهمه المجهول

علاقة يديرها العصف الذهنى وتشوبها السيناريوهات الغائمة.. هى تلك العلاقة التى تربط المبدع بكنوزه المقروءة ومكتبته العتيقة التى حرص على مدار مشواره أن يجمع بداخلها كل ما يجسد له قيمة قد لا يدركها سواه، وكذلك الحال بالنسبة لرفقائه فى الدرب.. تلك العلاقة التى لا يحميها الزمن ولا يكفل لها قانون المواريث وثيقة تحفظها من التآكل والمصير المجهول، وتركها فى مهب رياح الحظوظ والتمنى اليتيم.

ذلك التساؤل الهام أثاره الكاتب والروائي المصرى "أشرف العوضىعبر حسابه الخاص على "فيسبوكقائلاً : "كُتبنا.. ماذا سيحدث لها بعد أن نموت؟ مُتابعاً قوله "قبل سنوات طويلة نشرت قصة قصيرة بعنوان "الكاتبفى مجلة الجسرة الثقافية وكانت تحكى عن كاتب كبير مسن لديه مكتبة كبيرة ضخمة ونادرة جمعها على مدى أكثر من خمسين عاماً. وعندما توفى باع أبناؤه مكتبته لأول بائع روبابيكا، ولكن ظلت روحه تلاحق كل كتاب منها وتعرف مصيره سواء استقر فى مكتبة أخرى أو تحول الى قراطيس لب أو فلافل أو ترمس وبطاطا".
تابع قائلاً: "أتذكر أنها المرة الأولى والأخيرة التى أرى فيها أستاذى ومعلمي ورفيق الغربة الكاتب المسرحى "أنور جعفر" يبكى وهو يقرأها ويعيد قراءتها أكثر من مرة، ويومها لم أفهم سر بكائه حتى قرأت صباح اليوم مصادفة هذا المقال القديم للمبدع السكندرى الكبير "مصطفى نصر" والذى يقول في جزء منه: "أنظر حينذاك إلى كتبي المصفوفة حولي في المكتبة، فإذا مِت فجأة قد يبحث الورثة عن تنظيف الشقة من هذه الكتب التي تشغل جزءًا كبيراً من الحجرة، ولن يجدوا سوى هذا الرجل ليشتريها بالكيلو. أو ربما يرمونها في صناديق القمامة الكبيرة، المهم أن تخلو الشقة منها" . 

وقد كنتُ أسير مع صديقي شوقي بدر يوسف وتوقفنا في محطة مصر أمام بائع كتب قديمة، وفاجأني شوقي بقوله للبائع:  "فيه زميل لنا مات، خد رقم تليفونه من مصطفى واعرض على أسرته شراء مكتبته".. كان يقصد زميلنا الكاتب المسرحي والروائي أنور جعفر، ولم يكن قد مر على موته سوى أيام قلائل .فشعرت بالخوف، وقلت لشوقي:"معنى هذا إنك سترشد باعة الكتب القديمة عن بيتي فور موتي، ليفاوض ورثتي في شراء مكتبتي".ومرت فترة قصيرة وفوجئت بـكتب أنور جعفر تباع لدي بائع كتب قديمة على ترام الرمل.. اليوم فقط عرفت لماذا كان يبكى أنور جعفر عندما قرأ قصتي .

والواقع كان التفاعل على ما طرحه الكاتب أشرف العوضي مثيراً للاهتمام، فقد أثار مسألة ربما نتناسى التفكيرفيها، إلا أنها جديرة بلحظة تأبين استباقى، إذ أن إرثنا من الكتب بمثابة تركة بلا ورثة.. تركة للمجهول.. تركة يأكلها الجهل بحكم غياب إدراك قيمة الكلمة والمعرفة اللذين يُجاوزان  فى قيمتهما قيمة الأوراق الملونة "البنكنوتية".

ومن بين أهم التعليقات التى أثارها هذا الطرح ما قاله الكاتب محسن الطوخى معلقاً: "بائع الروبابيكيا هو المصير الطبيعي لمكتباتنا، سوف يقوم بإيصالها إلى النبي دانيال حيث جلبنا أغلبها. ليقتنيها مثقف جديد، يمنحها مكاناً جديداً، وحياة جديدة .لا يمكننا أن نرغم ورثتنا على الاحتفاظ بتلال الكتب المصفوفة على أرفف تحتل حوائط غرف البيت، والمكدسة في صناديق أسفل الأسِرة، وفي كل ركن متاح في شققنا محدودة المساحة. بائع الروبابيكيا إذن هو حلقة في دورة حياة الكتب. كنت أعرف كل كتاب في مكتبة أنور جعفر، وكانت تحتل حائطين كاملين في غرفة صالون بيته التي خصصها لندوته الأسبوعية. كل كتاب في مكتبته إما تصفحته، او تحسسته، أو استعرته. لا أعرف مصير تلك المكتبة، لكني أثق في أن مصيرها خير من مصير سواها، فـ" أمينة انور جعفر" مثقفة، وقارئة، ولابد أنها جنبتها المصير الطبيعي، ولو إلى حين. فهى صورة لأبيها الذي كنت أعده أستاذا لي، بثقافته الرفيعة، وحلمه، وأريحيته.

كانت المكتبة الممتدة على مسافة حائطين تحوى عدداً هائلاً من الكتب، فيما شغل الرف السفلي منها ملفات ورقية تتضمن أرشيفاً مفهرس أبجدياً. وكنت أعد هذا الارشيف بمثابة دائرة معارف طالما استعنت بها في العثور على المادة المعرفية التي أريدها.. رحم الله أنور جعفر. وجعل ماقدمه للمسرح، وللأدب عموماً، في ميزان حسناته".

بينما علقت د. عفاف عبد المعطى، قائلة:"المشكلة ليست فى الكاتب ولا الورثة ولا البائع الجائل. المشكلة المأساوية أننا فى عالم عربى لا يقدر معنى الكلمة ولا يحترم الثقافة وليس للعلم ثمن، لذلك فإن السواد الأعظم الجاهل يلقى بالكتب إلى الجحيم"، فيما قال الكاتب مصطفى نصر: "فعلا هذه الكتب تؤرقني، أتمنى أن يأتي حفيد أو حفيدة تحب الكتب مثلي لكي تحافظ عليها وتظل المكتبة قائمة. قلت في مقالي الذى أشرت إليه إنني زرت بيت المستشار فوزي الميلادي في اليوم التالي لموته، فقال لي أخوه الصغير، تعالى خد الكتب دي، عايزين ننضف الشقة" . فيما علقت الروائية رشا عدلى قائلة : "عندما توفى أبى رحمه الله تبرعت بجزء كبير من مكتبته لمركز الفنون الشعبية التابع لأكاديمية الفنون لينتفع بها الطلبة والباحثون". كذلك علق الكاتب حمدى البطران قائلاً: "الحقيقة، لمست وتراً حساساً نفكر فيه جميعاً، وهو مصير مكتباتنا التى أنفقنا عمرنا فى جمعها.. هى جزء منّا ونتمنى أن يحتفظ ورثتنا بها للأجيال القادمة. فهى ثروة حقيقية".

وقد جاء تعليق الكاتب السودانى عبد الغنى كرم الله ينم عن عشق جارف للكتب، حيث قال:" أحب الكتب، ليس لمتنها، بل أحبها كما هى.. سماكة الغلاف كما فى كتب تشيكوف الرخيصة المعومة من الاتحاد السوفيتى فى ذلك الحين.. كنت أحب رائحة الكتب.. بأنفى استطيع أن أفرق بين مجلة صباح الخير وروزاليوسف وحواء.. اليوم لى مكتبة فى الدار أخشى على الأحياء فوق رفوفها.. نجيب محفوظ أضعه مع مذكرات مدام كورى، ربما حب العقل صَاهَر بينهما. فالقراءة والكتب فى نظرى غذاء فكرى"

كما علقت الكاتبة اليمنية زهور عبد الله، قائلة: "للأسف هذه هى الحقيقة المرّة.. وجهد هذا الكاتب وقيمة هذه الكتب الثمينة مازال محجوباً لدى المجتمع فى معظم الدول العربية". فيما قالت الروائية أيه ياسر: "ما تتحدث عنه حدث معى بالفعل مع جدى لأمى رحمه الله.. كان كاتباً مغموراً ومحامياً مثقفاً جداً، وكانت لديه مكتبة مليئة بالكتب، وبعد وفاته باعت جدتى الكتب وبينها مسودات أعماله التى لم تُنشّر لبائع الروبابيكيا، لتتخلص من زحمتها بالشقة، وكنت طفلة فى ذلك الوقت. لو كنت أكبر سناً لمنعتهم واحتفظت بها لنفسى" .كذلك علق الكاتب المصرى "أحمد صوان" قائلاً: "أنا قررت أمنح نصف مكتبتى لابنتى والنصف الأخر لأى مكتبة فى منطقة فقيرة"، فيما علق المستشار أحمد عطية قائلاً: "ليس بأيدينا إلا الدعاء بأن يجعل ما نتركه من كتب علماً ينتفع به ليكون واصلاً لنا بالحسنات فى وقت تنقطع فيه الأعمال.. لا تحزن يا صديقى فنحن عند الموت نترك الدنيا والمال والأبناء والأهل، فهين أمر ترك المكتبة فى وسط هذا الزخم".

وسط هذا الزخم من التعليقات والأراء لاح برأسى تساؤل عصى، ألا وهو: هل الصلة القوية التى تربط المبدع بكتاباته أو كتابات أخرى يهواها، صلة يشوبها مسحة من الإيهام؟ أحب الاشخاص يتركوننا ونتركهم ويلتهمهم الفناء.. فما بالنا بالكتب والوريقات التى لا يشعر بقيمتها سوى من اعتصرت روحه عبر سطورها.. فالدنيا بما فيها مجرد بوتقة من الخواء، ومع ذلك تبقى المفارقة قائمة وتُنذر بضرورة رأب هذا الصدع العميق الذى يبتلع قيمة إرث الكلمة، التى باتت تشكو الزمان لما ألم بها من هدر وإجحاف، فالكلمة هى صاحبة الحياة الأبدية التى تسافر عبر العصور وتشكل المستقبل.. لذلك علينا أن نعلم أولادنا قيمة ما تحويه هذه الكتب والأسطر وأن نترك لهم وصايانا بألا تتلف هذا الإرث يد الإهمال وغبار النكران، فهى كنوز جديرة بالتوارث.
---------------------
بقلم: شيرين ماهر 

مقالات اخرى للكاتب

بحبر الروح | اللهم حَدْساً !!





اعلان