24 - 04 - 2024

عمار الشريعي.. "طه حسين النغم" الضاحك على الدنيا!

عمار الشريعي..

في عام 1979، زمن تلفزيون الأبيض والأسود، كنا أطفالًا نشاهد مسلسل «بابا عبده»، الأب الذي يتظاهر بالبهجة وهو يرى الحياة تتغير وتتبدد في عصر الانفتاح، ومن رباهم وحملهم على كتفيه يتخلون عنه. كان ثمة أسى وحزن وراء البهجة المعلنة في «التتر».
كنا نشاهد أيضًا «الأيام» سيرة طه حسين الفتى الكفيف الذي تحدى عمى البصر بنور البصيرة.
كلا المسلسلين من موسيقى عمار الشريعي، وكلمات توأم روحه الشاعر سيد حجاب.
كان عمار السمالوطي متماهيًا مع سيرة بلدياته العظيم «طه حسين». قرر أن يهدم سور العتمة بنور البصيرة. فليس طه حسين هو الـ «ماشي فى طريق الشوق ماشي.. لكن قلبي مطرح ما يمشي يبدر الاحلام» بل هو الشريعي نفسه.
والدته أيضًا تمنته أن يكون طه حسين آخر تجود به المنيا، وإرضاء لها التحق بجامعة عين شمس لدراسة الأدب الإنكليزي.
ثمة فروق أيضًا بين الرجلين العظيمين أن أولهما درس الأدب العربي ثم الفرنسي، والآخر درس الأدب الإنكليزي. طه ينتمي إلى أسرة بسيطة بينما عمار ابن إحدى أشهر عائلات الصعيد والتي يرد البعض نسبها إلى قبيلة «الهوارة» العربية الشهيرة. وعلى مر التاريخ المصري خلال مائتي عام تكرر ظهور بكوات وباشوات آل الشريعي، سواء في الثورة العرابية أو مجلس الأمة. عمار ولد كفيفًا، بينما طه اكتسب العمى بعد الولادة.
ومدار العظمة ليس في تحدي العمى فقط، بل في العبقرية الشفاهية التي يملكها الرجلان، فهما أصحاب ثقافة موسوعية لعبت الأذن دورًا مهمًا في تشكلها. كلاهما بارع تمامًا في الهيمنة على المتلقى بسلاسة وعذوبة الحكي، حتى وإن كان عمار منحازًا للعامية المصرية.
ومثلما كان والد طه مؤمنًا بابنه إيمانًا عظيمًا، كان علي الشريعي مؤمنًا جدًا بابنه المثابر المكابر الذي لا يريد من أحد أن يعامله معاملة الكفيف إلى درجة أنه طلب من أبيه أن يدربه على «ركوب الخيل» مثل أقاربه، وهم أسرة معروفة بتجارة الخيل.
الأب نفسه سافر به مع بزوغ موهبته والتقى الموسيقار كمال الطويل كي يسأله عن فرص ابنه في دنيا النغم. ثم اضطر إلى إلحاقه بمدرسة المكفوفين النموذجية في القاهرة، وهناك تعرف عمار على إخوانه الذين يسكنون في الظلام مثله.. وهناك تعرف على خفة الظل ورهافة الأذن، وشجعه مدرس الألعاب على العزف على آلة الأكورديون.
الأكورديون كانت آلته الأولى، يعزف عليها في حفلات الميلاد والأعراس، قبل أن يتحدى نفسه في العزف على آلات «الأورج» و«العود» و«الكمان». فهو مثلما لا يريد أن يكون حبيس العمى، أكثر شجاعة من أن يبقى حبيس آلة واحدة.
بعد التخرج أصبح معروفًا كعازف، وغضبت أمه من حياته وراء الفرق والراقصات. فعالم الفن في طبقته الدنيا موحش وقاس على كفيف مثله. ومن الطرائف أنه شارك في أحد الأيام بالعزف على مسرح عبارة عن «عربات كارو» انطلقت به أثناء العزف!
آنذاك كانت مصر مليئة بأسماء عظيمة في عالم الموسيقى، ولا ثقب لولادة موسيقي آخر، في حضور عبدالوهاب والسنباطي، وكمال الطويل والموجي وبليغ حمدي.
وعمار ابن الخامسة والعشرين لا يريد أن ينتهي ك «آلاتي» في عرس أو وراء راقصة في شارع الهرم، فجرب حظه ملحنًا مع مها صبري في أغنيتها «امسكوا الخشب يا حبايب».. وكسرت الأغنية الدنيا.. ثم جرب حظه مع شادية في «أقوى من الزمان». الأغنية التي كشفت عن معدنه، وأنه أكثر من عازف، وأكبر من ملحن، بل قادر على التأليف الموسيقي.. وعلى إدهاش المستمعين بنغم لا يمكن تصوره في أغنية عاطفية. وأصرت شادية أن يكتب الموسيقى التصويرية لفيلمها «الشك يا حبيبي».
كيف يكتب كفيف موسيقى تصويرية لفيلم وهو لايرى المشاهد أساسًا؟ كيف سيشعر بإحساس الممثلين والموقف الدرامي، كيف سيقيس شريط الصورة على شريط الصوت وهو لا يرى؟!
نجح الفيلم.. ونجح عمار في الاختبار.. وفرض اسمه في عشرات الأفلام الشهيرة: حب في الزنزانة، لا تسألني من أنا، أرجوك اعطني هذا الدواء، الصبر في الملاحات، كراكون في الشارع، أبناء وقتلة، أحلام هند وكاميليا، ويظل «البريء» أهم وأشهر أفلامه.
كان امتدادًا مهمًا لعظماء الموسيقى التصويرية مثل فؤاد الظاهري وعلي إسماعيل. لكن في الدراما التلفزيونية كان من اخترع «فن التتر» مع سيد حجاب، وانضم إليهم كثيرًا علي الحجار بصوته القوي، ومعظمها كانت أعمال من تأليف أسامة أنور عكاشة.
بالتأكيد هناك قبله «تترات» مهمة.. لكن عمار ارتقى بفن الشارة التلفزيونية فلم تعد مجرد بداية ونهاية مصاحبة لكتابة أسماء فريق العمل، بل أصبحت مفتاحًا إلى العالم الدرامي نفسه، خلاصة شعرية للدراما، ورافعة مغناطيسية لاستقطاب الجمهور وتدشين المسلسل في الذاكرة.
«التتر» قبل حجاب والشريعي، ليس هو «التتر» بعدهما، تاريخ طويل صادقنا في طفولتنا.. على طول وعرض الوطن العربي. أصبح الاثنان جزءًا من طقس رمضان، ورائحته وحنينه.
عشرات المسلسلات المصرية التي شكلت وجدان الملايين: وقال البحر، زينب والعرش، دموع في عيون وقحة، رأفت الهجان، الشهد والدموع، عصفور النار، الراية البيضا، أبو العلا البشري، السيرة الهلالية، حديث الصباح والمساء، العائلة، آرابيسك، وشيخ العرب همام.
كنا نكبر على مسلسلاته، وكان عمار يكبر معنا. كان صديق مشاعرنا.. ومؤسس قيمنا.. وكنت مثل ملايين غيري أتعلم من موسيقى عمار وشعر سيد حجاب والأبنودي.
فلا عجب أنني تعلمت الوطنية من أغاني عمار وليس من كتب التاريخ ولا خطب الساسة. ولا عجب أن تختاره حكومة مبارك طيلة اثني عشر عامًا لتقديم حفلات نصر أكتوبر.
ومثلها حفلات أعياد الطفولة التي كانت ترعاها زوجة الرئيس، فكانت فرصة لعمار الذي عاش حياته بقلب ومرح وبراءة طفل كبير، كي يبدع في تقديم نغم طفولي مبهج للقلب. وتظل تجربته الأجمل في هذا المسار مع عفاف راضي.
عمار ليس عازف الآلة الواحدة، وليس ملحن المسار الواحد.. فهو من اخترع «تتر» المسلسلات اختراعًا.. وهو من برع في موسيقى الأفلام.. مثلما هو عاشق كبير لأغاني الأطفال لا يسبقه في ذلك إلا محمد فوزي.. وهو سيد الأغاني الوطنية والدينية والعاطفية والشبابية. وهو من نجح أيضًا في المسرح الكوميدي والاستعراضي كما في: علشان خاطر عيونك.. والواد سيد الشغال. وإن لم يجد المسرح كما تمناه، عند مسرح سيد درويش والرحابنة.
ولأنه لا يريد أن يتقولب، هو النهم إلى الحياة حتى الثمالة. ولا يريد أن يقف لحظة خارج تيارها النابض. عندما اشتهرت مطلع الثمانينيات فرق غنائية مثل «المصريين» و«الفور ام» أنشأ فرقة «الأصدقاء» بعضوية منى عبدالغني وعلاء عبد الخالق وحنان، وحقق نجاحًا مدهشًا في أغنيات رائعة مثل «الحدود» و أغنية «الموضات»
ليس ثمة قالب موسيقي عصي على روحه وقلبه وأصابعه.. ليس هناك ثيمة منغلقة على رهافة أذنه، وفي كل ما أبدع كان مباركًا ناجحًا.
بل إنه كان يشارك في الغناء أحيانًا، وينضم إلى الكورال أحيانًا أخرى، فلا تخطئ الأذن صوته الأجش الحنون. هو لا يؤمن بأن الغناء حكر على الأصوات الجميلة فقط.. فالغناء حق لكل الناس.. وليس غريبًا أن يغني من ألحانه عبد المنعم مدبولي، وعبدالعظيم عبدالحق، حتى أمينة رزق غنت من ألحانه مثلها مثل شادية!
كان عمار عاشقًا لكل جمال.. جمال الطرفة وجمال الحكاية وجمال النغم.. لا يتكلم عن أحد بكراهية ولا بتشفٍ وانتقام.. بل يعيد اكتشاف الجمال الكامن في شخصه وفي إبداعه.. كان بحق «غواص في بحر النغم» ـ عنوان برنامجه الإذاعي الأشهر ـ مثلما هو «غواص في بحر الجمال».
لذلك خاض معنا تجربة غير مسبوقة عندما قرر تربية الذوق والأذن، في تجربة عربية لا مثيل لها، بدأها ببرنامجه الإذاعي قبل أكثر من ثلاثين عامًا واستمر فيها على قناة دريم في «سهرة شريعي».
أراد عمار أن يربينا موسيقيًا وهو يرى كيف يختفي الجمال والذوق من حياتنا.. أراد أن يشاركنا متعة الموسيقى التي يحبها، باستعادتها والكلام عنها والتلذذ بها.
كان عمار موسيقيًا جياشًا بالحب والوطنية والبهجة. جيشان يظهر تمامًا اندفاع وترياته كأنها طوفان، في شجنها الخليط من ضربات العود وتنهيدات الناي والكولة.. في قوتها العالية التي تشل الحواس وتهيمن عليها.. ثم جريانها الحنون كأنها دفقات نهر النيل. فموسيقى عمار الصعيدي انعكاس لا مثيل له لجغرافية مصر كلها، هضابها ووديانها وبحارها، وحكايات ناسها من فلاحين وصعايدة.
لقد قرر عمار منذ طفولته أن يضحك على الدنيا، ولا يستسلم لآفة العمى.. فكان قادرًا على التعامل مع «الميكسر» بكل مفاتيحه وأزراره المعقدة.. مثلما كان يشاهد الأفلام ومباريات كرم القدم.. يأكل ويشرب ويلبس معتمدًا على نفسه.. إلى درجة حيرة المحيطين به، ودفعت المخرج حسين كمال أن يصيح أثناء تصوير أحد الأفلام قائلًا أمام الجميع: «دا بيشوف.. وبيضحك علينا!».
حتى ابنه الوحيد «مراد» قال إنه لم يكن يصدق أن والده كفيف لإتقانه الشديد لكل ما يفعله بنفسه كأي مبصر.. حتى الآلات التكنولوجية الحديثة كان يجيد التعامل، ووجه ابنه إلى دراستها.
عمار الفنان قصة موسيقية تزيد عن مائة وخمسين عملًا شكلت روح ووعي ملايين المصريين والعرب.
وعمار الإنسان الذي لم يجد غضاضة في الانحياز إلى شباب ثورة يناير، آملًا في مصر الجديدة التي عاش يغني من أجلها.. ولا أحد ينسى اتصاله الشهير بالإعلامية منى الشاذلي، ومطالبته لمبارك بالتنحي، ثم ظهوره في ميدان التحرير رغم متاعب القلب.
أراد عمار أن يقول انه عاش يعزف ويغني للناس.. ولهؤلاء الشباب وليس من أجل سلطة.. من أجل الوطن وليس من أجل حاكم.
وعقب ظهوره في التحرير والذي تزامن مع غناء الحجار من ألحانه لأغنيته «هنا القاهرة»، قضى عمار عامه الأخير في مقاومة قلبه المتعب إلى أن استسلم في السابع من ديسمبر عام 2012

------------------------
بقلم: شريف صالح
نقلا عن النهار الكويتية، مع تغيير عنوانه


عمار مع زوجته وابنه الوحيد مراد.. واعتقد انه تخرج الآن في الجامعة


مقالات اخرى للكاتب

حول مصير مصر!





اعلان