19 - 04 - 2024

بحبر الروح| ركن لا يشبه سواه

بحبر الروح| ركن لا يشبه سواه

"ما بين مِقصلة الحياة وفقدان الغطاء الروحى".. تُرى مَن يتجرأ على فهم الجحيم الذى دار برؤوس هؤلاء البائسين فى لحظة شديدة الإظلام والعزلة؟ تتعدد الأدوار المتباينة التى يلعبها البعض، كلما طفى على سطح واقعنا الافتراضي المحموم حادث انتحار جديد يؤجج نيران الجزع والاستنكار.. كأنهم يملكون الحل السحرى الذى يغيب عن الأخرين أو لديهم من الفطنة ما يدفعهم لضخ الوعظ والنُصح فى عقول الجموع.. بعضهم يتفاخرون بإيمانهم وينهالون بـ"سياط" اللوم على هؤلاء الضُعفاء الذين ثقبت الحياة رؤوسهم. والبعض الأخر يطلق لنفسه العنان فى نسج الأقاصيص والأكاذيب حول ضحايا "الكلب الاسود"، أى "الاكتئاب".. وهناك أخرون يطرحون فكرة "العلاج النفسى" لتحجيم الطفرة الكيميائية التى تضرب ثنايا المخ وتٌفقِده توازنه الطبيعى.. 

يستمر الزخم فى تفنيد الأسباب وطرح الحلول وعقد المقارنات وما شابه ذلك.. ولكن هل حاول أحد استيعاب حجم الوعكة الروحية شديدة الخطورة التى ألّمت بـ "قطيع" المنتحرين وكيف كانوا يحجلون على حافة منعطف مظلم لم يستطيعوا معه الخلاص والعودة مرة أخرى إلى الحياة قبل دخول ذلك النفق الأسود؟ لم يكونوا سوى رهائن وأسرى فى زاوية شديدة الضيق تنزوى فيها قدرتهم على التصالح مع الحياة والأقدار، عندما غافلتهم عقولهم وانزلقت وصولاً إلى ذلك القبو المُعتِم، ثم استقرت فى لحظة آنية لا تنتهى ولا تتبدد، لكنها تغرس مئات الأسهم المسمومة فى محيط غلافهم الحيوى.

إنها فخوخ الحياة التى ستأتى لا محالة، لكونها دار ابتلاء، لكننا نتناسي كينونتها دائماً.. فالحياة بكل صخبها وتفاصيلها.. أقاصيص ومرثيات.. بهجة وعذابات.. أحباء وأعداء ليست إلا سرابا، ولا تتعدى كونها مجرد حلم طويلً، نتصدع بين جوانبه وصولاً لليقين الأخير، لكننا نركض فى هذه الدنيا برؤية منقوصة أو بالأحرى معكوسة

نتشبث بالحلم أكثر من الحقيقة.. ربما الصعوبة تكمن فى أن حلم الحياة واقعى أكثر من اللازم، ومن ثم يصبح الارتباط به محض قدرية يصعب الإفلات منها، لكوننا داخل كواليسه شئنا أم أبينا. فهناك مَن يَعلَقون داخل أقدارهم ويعجزون عن الاستبصار داخل أحداث حلم الحياة، إذ تأخذهم جذوة التفاصيل والاستغراق حد التسليم بأن هذه هى أقاصيصهم الأخيرة وواقعهم الأوحد.. نعم ، يُقِرون بالحياة الأخرة، لكنه إقرار طويل الأجل يُعلقهم بأطراف الانتظار.. أما الكابوس الراهن فهو الأرض الوحيدة المتاحة للوقوف اللحظى على مسرح الأحداث

هؤلاء الغاضبون يَعلَقون بـذلك "الرُكن" الذى لا يشبه سواه بين رقعتى الحلم واليقين.. فلا هم متغاضون عن عثرات الحلم ولا هم مطمئنون حتى تأتيهم كواليس اليقين. فقط يركلون الأرض تحت أقدامهم، ربما انشقت وابتلعت لحظات التيه التى اختطفت ثباتهم.. يقضمون بنان الندم، كلما غرستهم الدنيا بأرضها الصمغية، فعجزوا عن الفرار.. يوبخون ذواتهم ولا يبوحون، طمعاً فى لطف أخير بقلوب تتعثر على صراط الحياة.. يُسهِبون فى جلْد عقولهم، التى قادتهم إلى ذلك الغضب الكتوم ولكن دون القدرة على ردعها.. يفوضون الأمر إلى صاحب الأمر طمعاً فى سبيل للعودة، لكنهم يتعجلون اللقاء الأخير، لكونه القُرب المُنتظّر، ويغيب عنهم أن كل هذه"العثرات" وضِعت خصيصاً للعباد المتميزين

فقط لا تخيبوا ظن الله فى قدرتكم على الاحتمال والصمود، حتى يحين اللقاء فى موعد كان معلوماً. فيا الله لا تدع ذواتنا تفر من ساحة المعركة قبيل انتهائها.. وعَلِق أرواحنا بلحظة نجاة تقطع وعودها بالإتيان حتى نستطيع مواصلة الانتظار.. واجعَل رسائلك تفطم ذلك الجزع الزاحف فى الخفاء.. وابسط كفيك بما يحيل الظُلمة إلى نور.
----------------------
بقلم: شيرين ماهر

مقالات اخرى للكاتب

بحبر الروح | اللهم حَدْساً !!





اعلان