ربما كانت مصادفة، أو مؤشرا على تغيير الأحوال فى عالم الناس والسياسة.
السياسة التي أصبح يقال عنها دائما اقدم مهنة فى التا ريخ وأكثرها تعقيدا، أصبحت فى زماننا هذا اكثر انحطاطا من تلك الاخرى التى نعرفها جميعا، والتى تعد سبة فى جبين النساء و الرجال على حد سواء.. كلاهما انحط بالجسد و المشاعر واعتبرها صفقة أو تجارة ملعونة.. الآن تفوقت عليها السياسة.. انحطت بالأجساد وحولتها وقودا لمطامع يستهان فيها بالشعوب، قتلا وتشريدا وفصلا عنصريا.
فى البداية جملوها لنا و قالوا عنها فن الممكن، حيث لا أعداء ولا حلفاء دائمين، إنما مصالح وصفقات.. أحيانا تميل للصالح العام، ودائما أجندات خاصة لفئة خاصة، لكن ما يحدث الآن خاصة فيما يتعلق بفلسطين وحقوقها ووجودها ذاته، خرج على كل التصنيفات التى تعلمناها فى مراكزها السياسية المتخصصة، ومثل حالة مستعصية من الظلم الإنسانى وصفقات شيطانية يعجز العقل عن استيعابها.
كان الاعتداء على غزة حاضرا بقوة فى الإعلام الخارجى وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، فى الشوارع الغربية وملاعبه الشهيرة وفى محاضرات أهمجامعاته.. يرفضون العدوان واغتصاب الأراضى وقتل الاطفال وتفجير البيوت على رؤوس سكانها الأصليين.. الكل صرخ منددا بتلك الجرائم المتكررة ولكن وحده الوطن العربى حرم عليه المساندة والدعم ولو بالهتاف.. إنها أيام السوء، لم نعد نعرف فيها عدونا من صديقنا.. حتى مقررات المدارس احتارت فى تدريس التاريخ الذى يتأرجح حسب مزاج الحاكم وانحيازات مصالحه!!
فرض الصمت ونكست أعلام فلسطين فى مياديننا العربية، إلا الثائرة منها فى الموجة الثانية من الربيع العربي!! أحمدك يا رب على تلك الثغرة الثورية الاستثنائية
وسط كل ذلك تم الهجوم على غزة بحرا وجوا.. صواريخ جبانة لا بطولة فيها ولا فروسية فلو تقابلت السيوف وجها لوجه ما بقى منهم أحد على قيد الحياة، ولكنه جبن القوة المهيمنة من أعالى السماوات، والصمت العربى المنزوع الشجب الذى كان يثير السخرية والمرارة، حتى هذا لم نجده .. يا لنكد الأيام المغتصبة.
تنتشر صور الضحايا، لتواجه جبننا وقهرنا.. مقاتلين اعتادوا الشهادة واعتادت الأمهات الفلسطينيات وحدهن، توديعهم بالزغاريد، وتحضر الأمهات الجيل الآتى لتكملة المشوار، تلك هى فلسطين!
لكن الذى لم نستطع نحن اعتياده هو دم الأطفال وجثثهم، ذعرهم وقهرتهم ونظرة الذهول المعجونة بالاتهام وآلاف الأسئلة.. لماذا لم تنقذونا؟ أو على الأقل قفوا على الحياد ولا تشاركوهم قتلنا.
صرخاتهم تصم آذان الشعوب فقط، بينما الحكام فى خبر كان.. أو هكذا يتجسدون لضميرنا النائم بين مصالح سياسيين لايعرفون للحق ولا الضمير طريق، ناهيك عن الخوف منه سبحانه المنتقم الجبار.. تلك الوجوه المذعورة من تبعات الموت.. تلك الأذرع المرفوعة طلبا للأمان رغم أن الذى وجه إليها لم يكن سلاحا، إنما كاميرا صحفية تحاول أن تسجل لحظة جريمة لو ارتكبت نصفها فى عاصمة أوربية لقامت الدنيا وما قعدت، ولكننا فى نظرهم مجرد عرب يتقاتلون فيما بينهم، ونادرا ما يتحدون لدرء خطر مصيرى يهدد بقاءهم من الأساس.
تعلم الصغار دون الخامسة والسابعة من العمر أن يبكوا ويختبئوا من بنادق جنود الاحتلال.. شياطين لا يعتبروهم ملائكة صغارا، إنما مشاريع مقاتلين لا بد من وأدهم قبل أن يشتد العود فيحملون السلاح لإعادة أراضيهم المغتصبة.
أما من هم فوقذلك فبدأ الوعى لديهم مبكرا، أصبحوا مشاريع مقاتلين ومقاتلات.. يواجهون العدو بالحجارة والصوت العالى.. وبعدها السلاح. يتعاملون مع القنابل وعمليات الاغتيال كروتين يومي، يلملمون ما بقى من البيوت أو مابقى من كراريس يعرفون أنها المستقبل، العلم وحفظ التاريخ هما أوراق اعتماد وجودهم.. لذلك هم الصامدون دائما.. هؤلاء الرائعون، المبرأون من الانهزام العام والانبطاح المخزي، صمودهم يكشف عوراتنا جميعا، شعوبا وحكاما نقف عاجزين أو مستسلمين، حتى الاحتجاج الحر حرمنا منه، علينا أن نغضب فى صمت ونتألم دون ضجيج قد يزعج أصحاب الفخامة أو المعالي، وهم يعقدون صفقاتهم سرا ويرقصون علنا مطبعين مع عدو مازال يترصد الأطفال باعتبارهم مشاريع مقاومة يخافون أن تنتصر عليهم يوما من الأيام، وتعطى أملا لشعوب عربية.
بدأت الموجة الثانية من الربيع العربى، محاولة أن تتعلم من أخطاء الموجة الاولى، وذلك ما يرعبهم.. أن تتحد المقاومة مع الانتفاضات العربية، فتنبعث فلسطين البهية الأبية.. من رماد الوعى والمقاومة.
أما المطبعون والبائعون والراقصون المنقلبون على الأخوة والعروبة والقدس العربية.. فلا حروف قادرة على وصفهم، والتاريخ وحده سوف يذكرهم بما يليق بهم.. نفس التاريخ سوف يذكر بأدق التفاصيل، كيف تخلى الحكام العرب عن القدس وغزة والقضية كلها، فى مقابل كراسي حكم أو سنوات تضاف غصبا عن الشعوب. وسوف يذكر دماء أطفال فلسطين وجثثهم المبعثرة على عتباتهم الظالمة المتواطئة، وسوف يذكر بالذات رقصة العقال العربى مع القلنسوة الصهيونية، بينما تدك غزة على رؤوس أطفالها!!
------------------------------
بقلم: وفاء الشيشيني