28 - 03 - 2024

نوبة حنين لغناء عدلي فخري

نوبة حنين لغناء عدلي فخري

منتصب القامة أمشي....مرفوع الهامة أمشي" وكأن الشاعر سميح القاسم كان يصف الفنان عدلي فخري حين كتب هذه الكلمات. ولد عدلي في 23 يوليو 1940 بإحدى قرى محافظة سوهاج من ابوين صعيديين. ثم انتقل الوالد الذي كان يعمل "ترزي بلدي" الى القاهرة عام 1945. وكان لدى عدلي 7 اشقاء ولدوا جميعا في القاهرة. درس عدلي فخري بكلية العلوم جامعة القاهرة شعبة كيميا جيولوجيا وتخرج منها عام 1963، وانضم عدلي اثناء دراسته الجامعية الى فريق العمل المسرحي والموسيقي بالكلية. وتعلم العزف على العود والتحق بالمعهد العالي للموسيقى العربية حيث درس الموسيقى واعتمد في الاذاعة كملحن ومغني عام 1968، وبدأ العمل في التلحين والغناء بشكل محدود فقد كان يعمل منذ عام 1964 كمهندس كيماوي جيولوجي بالمؤسسة العامة للكيماويات حتى عام 1977، وكان أكبر أشقائه لذا عند وفاة والده عام 1965 تحمل مسئولية إخوته التي رغم ثقلها لم تثنه عن تحقيق حلمه الشخصي في أن يصبح ملحنا ومغنيا، وحلمه العام بوطن حر يسوده العدل. 

يقول عنه شقيقه الاصغر مدحت في احدى لقاءاته الصحفية:" كان أخا أكبر لنا، ولكنه كان أبا حنونا عوضنا عن موت والدنا المبكر، وكان إنسانا عطوفا محبا وصادقا في حياته الشخصية وحياته النضالية، أحاسيسه مرهفة حتى انه كان يبكي عندما يرى رجلا عاجزا أو طفلا مشردا في أيام البرد القارس. وكان يغني بمنتهى القوة والحماس والصدق الشديد، وهذا ما أثر عليه صحيا وتسبب في إصابته بأزمات قلبية ثم دماغية." 

وكانت هذه المتاعب والآلآم هي التربة التي نبتت فيها بذور الرجولة والشموخ في شخصية عدلي فخري، وبرزت فيها مواهبه التي صقلتها مشقة الحياة وقسوتها. للأسف كثيرون من هذا الجيل لم يعرفوا عدلي فخري وربما حتى من الذين عاصروه، فقد كرس عدلي فنه وحياته لخدمة القضية الوطنية وانحاز لصفوف البسطاء من العمال والفلاحين الفقراء والمقهورين. كان يندد بالظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي ويقف في مواجهة الانظمة المستبدة، وانعكس ذلك على موسيقاه وغنائه. 

استمعت اليه اول مرة في كلية الآداب بجامعة القاهرة اثناء المهرجان الفني الذي اقامه اتحاد الطلاب عام 1972 وانطلق صوته مجلجلا بكلمات الشاعر سمير عبد الباقي رفيق دربه فكان ينشد وننشد معه: "بحب صوت الكنايس/ واعشق هديل الآذان/ ياقلبي كون الف فارس/ تحرس عشوش اليمام/ واصحي يا مصر اصحي/ واتذكري واوعي تنسي/ جرحك يا مصر وجرحي/ سينا سينا شراع السفينة." 

ألهبت أغانيه حماس الحاضرين وأيقظت الوعي الجمعي والحس الوطني لديهم، وبعد عدة ايام انطلقت انتفاضة الطلاب وكأنه اطلق نفير الثورة، لقد ساهم عدلي فخري كما ساهم العظيمان الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم في تحفيز الشباب وخلق صحوة وطنية تطالب بالحرب من اجل تحريرالأرض المحتلة وبالديمقراطية من أجل تحريرالانسان المقهور. 

هكذا لعب عدلي فخري دورا وطنيا في الساحة السياسية، ثائرا على الأوضاع المجحفة لملايين البشر. وقدم عدلي للإذاعة العديد من الاعمال المتميزة من بينها أوبريت "صندوق الدنيا" من ألحانه وأشعار سمير عبد الباقي وإخراج الراحل سمير حسني غني فيها " يا ملك الزمان جينا لك نشكيلك رجالك/ يا ملك الزمان أدي حالنا يا ملك وحالك / يرضيك يا ملك الزمان /يا ملك الزمان يرضيك / الخياط يسرق هدومنا مع انها هلاهيل هلاهيل/ والطباخ يسرق طعامنا مع إنه ميه وفريك /والصراف يسرق فلوسنا الملاليم" وتنتهي شكاوى العمال "بعلقة". واذكر ايضا أغنية كان ينشدها العمال "حن يا صخر علينا حن/ الدقماق في إيدينا بيئن/ شمس الضهرية الحرانة/ راقدة على ضهورنا العريانة/ لا هي بتهدا ولا بتون، لا هي بتهدا ولا بتون". 

كانت هذه هي نوعية الأعمال التي قدمها عدلي في الاذاعة. كلها تدور حول معاناة الفقراء وشقائهم وبؤسهم. ورغم إنتاجه الغزير والمتنوع ومنه على سبيل المثال اللحن الذي اعتمد به عمرو دياب مطربا في الاذاعة وكانت أغنية أطفال من تأليف الشاعر شوقي حجاب وهي ايضا اغنية وطنية تقول كلماتها:" آدي الارض وآدي الشمس وآدي مصر/ واحنا ولادك احنا احنا يا مصر/ امتى نبني بلدنا بلدنا مصر/ نبقى مهندسين، نبقى مدرسين نبقى دكاترة كويسين / نبقى ولاد بلدنا ولادها المخلصين/ امتى امتى نبني بلدنا بلدنا مصر". 

ومن أكثر الأعمال التي نالت شهرة في هذه الفترة العرض المسرحي الذي قدمته جماعة الدراما بالمركز الثقافي السوفيتي :"في حب مصر" إبان حرب أكتوبرعام 1973 ألحان وغناء عدلي فخري تأليف سميرعبد الباقي وإخراج سامي صلاح، قدمت الفرقة هذا العرض في القرى والنجوع بمختلف محافظات مصر، وفي معسكرات الجنود وقت الحرب. وشاهده مئات من بينهم د. يوسف إدريس ود. حسين فوزي و رشا مدينة و د. محمود امين العالم وكتب عنه د. لويس عوض مقالا بالاهرام وصف فيه عدلي فخري بأنه "سيد درويش العصر". وغنى فيها اغنياته الشهيرة " مصر غيطان الرياح/ مصر اصوات التلامذة في الصباح/ مصرعابدين والمظاهرات القديمة" واغنية "بابلو نيرودا" عن الشاعر التشيلي الذي لقى مصرعه بعد الانقلاب على سيلفادور اليندي واغتياله تقول كلماتها " الدم في طبق الرئيس الأمريكاني/ الدم فوق صدر الوزير المعجباني/ الدم في المزيكا وف نوت الأغاني، تكتب شعاراتنا على حطان المدينة/ بابلو نيرودا" . 

اهتم عدلي فخري بقضايا التحرر الوطني في مصر والعالم العربي والعالم الثالث، ورغم كل هذا الابداع المتميز والمختلف عن السائد الا انه ظل مهمشا ربما لأنه اختار طريقا صعبا لا يؤهله للنجومية التقليدية أو قد يكون لغيابه سنوات خارج مصر. وقدم عام 1975 مسرحية "باحلم يا مصر" تأليف نعمان عاشور، اشعار حمدي عيد، واخراج عبد الغفارعودة عن قصة حياة رفاعة الطهطاوي "بشير التقدم"، ولكن يوسف السباعي وزير الثقافة آنذاك بعد ان شاهدها أمر بوقفها بعد 45 يوما فقط من العرض لاعتقاده ان بها اسقاطات سياسية على حكم أنور السادات. 

وقام عدلي بتلحين تترات بعض المسلسلات ووضع الموسيقى التصويرية لها، منها مسلسل اوكازيون" و"ميراث الريح. "وقام ايضا بغناء عدد من الأغاني الوطنية في الإذاعة المصرية واشهرها "بحبك يا بلدي"اشعار مصطفى حافظ وتلحين الموسيقار ابراهيم رجب.

وتوقف عدلي عن النشاط المسرحي في تلك الفترة ولكنه قام بالغناء في الندوات والمؤتمرات والحفلات الغنائية ذات الطابع السياسي في المصانع والجامعات وبعض التجمعات السياسية. وسافر عدلي الى اليمن عام 1977 ومنها الى لبنان حيث انضم للمقاومة الفلسطينية وعاش سنوات الحرب الأهلية هناك في بيروت الغربية حتى الاجتياح الاسرائيلي للبنان وحصار بيروت عام 1982. 

وعمل عدلي في تلك الفترة محررا صحفيا بوكالة أنباء وفا الفلسطينية. وكان صديقا عزيزا للقائد الفلسطيني ابو عمار رئيس منظمة التحرير الفلسطينية. وبينما كان الفنان اللبناني مارسيل خليفة يحظى باهتمام المنظمات والأحزاب الوطنية اللبنانية شعرعدلي فخري بالمرارة بسبب إهمال القيادات الوطنية المصرية له، فاحتضنه الفلسطينيون واحتفوا به وعاملوه بكل التقديروالاحترام. 

وغنى عدلي للشعراء الفلسطينيين محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد واحمد دحبور. كما تغنى بمصر لشعراء مصريين منهم محسن الخياط وزين العابدين فؤاد. وقدم لإذاعة المرابطون ملحمة "حكايات بهية" من ألحانه وغنائه ومن تأليف الشاعر محسن الخياط تروى صفحات من تاريخ مصر. 

وفي أثناء حصار بيروت كان عدلي فخري ينشد يوميا لبث الحماس في قلوب المقاومة الفلسطينية ويمرعلى المتاريس والخنادق الفلسطينية واللبنانية الوطنية حيث يقوم بإحياء حفلاته مع زين العابدين فؤاد للمقاتلين الذين يواجهون الجيش الإسرائيلي والميليشيات اللبنانية. وتعرض عدلي فخري في هذه الفترة لكثير من المخاطر بسبب الانفجارات والقذائف وغير ذلك من مخاطر الحرب والحصار الاسرائيلي لبيروت.

وعاد عدلي الى مصر عام 1982 بعد ترحيل المقاومة الفلسطينية من بيروت. واستأنف نشاطه الفني بعد عودته بمسرحية "منين اجيب ناس" لنجيب سرور، ثم مسرحيات " فلوس فلوس" و " جارنيكا "وولاد الايه "، وأخيرا "مجلس العنطزة " للمخرج عبد الغفارعودة عام 1992، وخلال البروفات اصيب عدلي بذبحة صدرية ثم عاد للعرض مرة اخرى واصيب بذبحة للمرة الثانية اثناء العرض في خلال شهرين.

وقام بتلحين وغناء تترات لمسلسلات قدمتها شركة صوت القاهرة من تأليف واخراج شوقي حجاب. وقام بتوزيع موسيقى لالحان حسني عامر وكانت هذه آخر اعماله الفنية .

وتكمن أهمية عدلي فخري الفنية في ثوريته السياسية، فهو وظف الفن ليخدم القضايا السياسية اليسارية والانسانية عامة، خاصة القضية الفلسطينية وقضية التحرر الوطني والاقتصادي في مصر. وقضية الحرية في العالم العربي والعالم أجمع.

وقد اثرت اصابة عدلي بالازمات القلبية في تلك الفترة على نشاطه الموسيقى حتى عام 1999، وتوفت والدته في نفس العام فأصابه الإحباط والحزن الشديد.

وفي زيارتي الأخيرة له كان مجروحا وممرورا يشعر بالجحود والنكران . سجل لي شريطين أحدهما جزء من "حكايات بهية " التي عملها في بيروت والآخر شريط لأغاني فيروز . ووعدني ان يسجل لي باقي الاجزاء تباعا لآخذها منه في الزيارات التالية . وبقلب جريح قال: "اوعي انتي كمان تتخلي عني وتبتعدي كما ابتعد باقي الأصدقاء". ولم يمهلنا القدر فقد وافته المنية بعد يومين تماما إثر اصابته بنزيف حاد في المخ.

رحل عدلي وضاعت معه ثروته الفنية التي حاولنا كثيرا تجميعها وحفظها، تراث من الأغاني والألحان والأشعار خاصة تلك التي صنعها في بيروت وما بعدها ..

لقد احب عدلي فخري الحياة وعشق مصر لكنه لم يلق من احبائه سوى الجحود، ويبقى الأمل رغم كل شيء. " وفي عز ليل القهر تخضر الأماني / ورصاص بنادق الشعوب يكتب تاريخ الشغالين."
--------------
بقلم: حياة الشيمي

مقالات اخرى للكاتب

نوبة حنين لغناء عدلي فخري





اعلان