20 - 04 - 2024

هؤلاء الرجال وسجونهم الراقية

هؤلاء الرجال وسجونهم الراقية

 هؤلاء الرجال ، أقصد بهم رجال السجون ، أعرفهم من زمن طويل .من الستينيات في القرن الماضي عندما شرعت للعمل باحثا في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية ، كان علي أن أجتاز برنامجا تدريبيا مشتركا مع عدد من أعضاء النيابة والسجون والشرطة وغيرها من المهن المتصلة بالعدالة الجنائية .جميعهم شبان مصريون طيبون بهم ما بالمصريين من مزايا وعيوب .كان يحاضرنا في البرنامج اللواء محمود صاحب واللواء ياسين الرفاعي من مديري مصلحة السجون السابقين .الرجلان يحفظان عن ظهر قلب لائحة السجون وقواعد الحد الأدني لمعاملة المسجونين الصادرة عن الأمم المتحدة ، ويلمان في نفس الوقت بمبادئ علم العقاب عن الوظيفة التأهيلية للسجون وتصنيف المسجونين وتفريد المعاملة العقابية وغير ذلك .كان الرجلان يتحدثان الإنجليزية بمهارة ولهجة راقية وكأنهما ولدا وشبا عن الطوق في ضواحي مدينة لندن او برمنجهام أو أكسفورد . لا أعرف السر في إجادة رجال السجون وقتئذ ورجال البريد والسكك الحديدية أيضا للغة الإنجليزية الراقية ، يبدو لأن هذه المرافق كانت محط اهتمام الانجليز بعد احتلالهم لمصر.

كانت تنظم لنا في إطار البرنامج التدريبي زيارات للسجون .طبعا كان يحدث بعض التكلف من ادارات السجن استعدادا للزيارة ولكنه كان كتكلف رب البيت عند استقبال الضيوف .كانت ملاعب كرة السلة والطائرة بالسجن تفتح وتفرش بالرمال ويقسم المسجونون الي فرق للعب المباريات أمامنا . وكانت مكتبة السجن ينفض عنها التراب وترش أرضها بالماء. وكان يتم استدعاء الشيخ الصاوي شعلان مدير الوعظ الديني بالسجون لالقاء درسه الديني أمامنا .وخلاف ذلك لم تكن تحدث مبالغات .لم نشاهد وقتئذ شوايات للكباب ولا ثلاجات للمياه والعصائر .ولم نشاهد مستشفيات يجلس فيها أمناء الشرطة علي الآسرة النظيفة ممثلين دور المرضي وهم في وضع الانتباه جلوسا . كل ذلك لم يكن يحدث ، ربما لأن برقع الحياء لم يكن قد سقط تماما ، ولأن تكنولوجيا الكذب والخداع لم تكن تطورت .

في إحدي زياراتنا التقي بنا مسجون سياسي شاهدنا عندما كان يتريض في فناء السجن .قال: لا تصدقوهم فهم كاذبون يخفون الحقيقة المزرية.الغريب أن أحد صغار المسئولين المرافقين لنا صدق علي كلامه .سألت المسؤول :لماذا إذن يكذبون ؟ قال :إنهم ينفذون التعليمات ولا شأن لهم بتنفيذ القانون .

بعد ذلك بسنوات ، سألت أحد كبار رجال الشرطة :إذا تعارضت التعليمات مع القانون ، هل تنفذ التعليمات أم القانون ؟أجاب دون تردد، طبعا التعليمات .الالتزام بالتعليمات هو وحده الكفيل بجلوسي علي مقعدي الوظيفي راضيا مرضيا وارتقائي مراتب الترقي في السلم الوظيفي.الغريب أن نفس هذه الإجابة تلقيتها من أحد رجال التحقيق ردا علي نفس السؤال .الأمر لم يصل إلي أحكام القضاء بعد لتصدر بالتعليمات .جلال القاضي أنه لا سلطان لأحد عليه غير القانون .إن حدث العكس ، انهارت الدولة والمجتمع، لأن العلاقات الإجتماعية المعقدة والمتغيرة لا تدار بالتعليمات اللحظية التي قد تخطئ وتصيب.القانون العادل الصادر عن برلمان ديموقراطي هو الحل لاستقامة أمر المجتمع. في النظم الاستبدادية يجري صياغة نصوص القانون بطريقة فضفاضة تسمح بنفاذ تعليمات القهر من بين ثنايا عباراتها.

كان معنا بالدورة التدريبية زميل يعمل بمصلحة السجون، حلو الشكل والهندام وعبارة الكلام . مثله كمثل ألان ديلون أو جورج كلوني.كان يعمل مديرا للعلاقات العامة بمصلحة السجون، حافظا لشعر المتنبي وابراهيم ناجي. بعد ذلك بعشرات السنين فوجئت من قراءاتي باسمه يتردد بأنه كان أحد المشرفين علي حفل التعذيب الذي قتل فيه شهدي عطية الشافعي. لقد خلع الرجل دور الفنان المثقف وارتدي قناع فرانكشتين تنفيذا للتعليمات .

الازدواجية في شخصية موظفي أجهزة القهر يجب ألا تؤخذ بهذه البساطة . لابد أن لديهم سمات شخصية تتمثل في الفصام وعدم السواء والنزوع للقسوة ولهذا يجري اختيارهم علي هذا الأساس. لن يشفع لهم أمام الله يوم الحساب قولهم أنهم

كانوا ينفذون التعليمات. هذه الحجة تذرع بها مجرمو الحرب النازيون في محاكمات نورمبرج ولكن المحكمة رفضتها فالقانون

الأخلاقي الأعلي أولي بالإمتثال له .

الانفصال بين القانون والتعليمات هو الباب الملكي الذي يمرق منه الظلم والقهر والفساد. في التسعينيات كلفتني الأمم المتحدة بالمشاركة في بعثة تقدير احتياجات السودان للمساعدة الفنية في مجال حقوق الإنسان . زرنا سجن النساء بمدينة جوبا في الجنوب. مدير السجن رجل أحمر الوجه أشقر الشعر ممشوق القوام ينتمي بمظهره إلي عصور فرسان المعبد، ويتحدث كثيرا من الإنجليزية وقليلا من العربية رغم أنه سوداني الأصل والمنبت . ألقي علينا الرجل في مكتبه محاضرة بليغة عن التزامه بقواعد الأمم المتحدة لمعاملة المسجونين . عندما اختلينا بالسجينات سمعنا الكثير عن قسوته المفرطة وشدة بأسه وشذوذه وأنه كان لا يقهقه إلا وهو يسكب علي أجسادهن العارية جرادل المياه ويضربهن بالسوط.

وتلك هي القاعدة في السجون العربية ، ابتسم وتجمل في وجه ضيوفك حتي تهنأ بالتهام ضحيتك.
-----------------------------
بقلم: د. نور فرحات

مقالات اخرى للكاتب

هؤلاء الرجال وسجونهم الراقية





اعلان