19 - 04 - 2024

عربة الموت التي كشفت عورات المجتمع .. عن ضحى عاصي وروايتها القاهرة 104

عربة الموت التي كشفت عورات المجتمع .. عن ضحى عاصي وروايتها القاهرة 104

مرثية للطبقة الوسطى منذ صعودها 1952 إلى انكسارها في 2011 
تغوص بمهارة في أعماق بطلاتها على حساب الرجال الذين يلعبون أدوارًا سلبية ووصولية واستغلالية للمرأة باستثناءات قليلة
.

ضحى عاصي كاتبة مصرية أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ورواية واحدة هي القاهرة 104. لم تكتف ضحى بالكتابة وحدها بل حاولت أن تلعب دورًا في الحياة الثقافية بدأ بسيطا بالمشاركة في دار نشر ومكتبة مع آخرين ثم بإنشاء مؤسسة ثقافية خاصة تقدم خدمات متنوعة في الأدب والفن من معارض تشكيلية إلى موسيقى وندوات ونشاط ثقافي للأطفال وورش، وهو دور قل أن تقوم به امرأة ليس بسبب العوائق المادية فحسب ولكن بسبب العديد من الصعاب الإدارية، والمجتمعية التي تواجه مؤسسات الدولة الثقافية ذاتها.

في روايتها القاهرة 104 تقدم ضحى عاصي حالة صعود وانهيار الطبقة الوسطى من خلال بطلتها انشراح التي تلقى بها الأقدار في أتون الحياة بلا سند حقيقي، فهي نصف متعلمة، تجاهد من أجل أسرتها محتملة كل معاناة الركض وراء لقمة العيش والفساد المجتمعي، وانهيار القيم للحصول على سعادة شحيحة تجود بها الدنيا من خلال دفء انساني شفيف يجمعها مع نساء معوزات ليس ماديًا بل عاطفيًا في معظم الأحيان

تبدأ الرواية بمشهد شديد الدلالة لرجل يتلقى العزاء من علية القوم في جامع عمر مكرم في زوجته الخادمة، وكأن الكاتبة تكبل الرواية بين قوسي سرادق العزاء في بدايتها ونهايتها فتقمع بالتالي تاريخ الشخصية التي ولدت مع ثورة يوليو 1952 وماتت مع ثورة يناير 2011. وتستعرض من خلالها رحلتها أنماطا متعددة من شخصيات مركبة شديدة التعقيد تفتح المجال لتعريفنا بالطبقات النفسية لها، على عكس ما يبدو عليها من الوهلة الأولى من بساطة، ويتضافر هذا مع التناقضات الاجتماعية والسياسية لهذه الفترة التي تعيشها هذه الطبقة وربما طبقات أخرى وإن كانت المؤلفة تهتم أكثر ببطلتها انشراح القادرة على تجاوز ازمتها بامتلاكها طاقات روحية أعلى من كل الناس المتعاملين معها سواء على مستوى الأسرة أو على مستوى المجتمع الذي تحتك به.

تهتم أكثر ببطلاتها جميعهن فتغوص بمهارة في أعماقهن، على حساب أبطالها من الرجال الذين يلعبون في الرواية أدوارًا سلبية ووصولية واستغلالية للمرأة باستثناءات قليلة مثل شخصية أشرف الذي تلتقيه البطلة انشراح في نهاية الرواية.

وابتداءً  بزوجها حسن "كلشنكان" شبه العاطل الذي لا يدير البيت ولا يتحمل مسئوليته أيضًا (ولو أن الكاتبة بينت له صحوة مفاجأة في نهاية الرواية في مواجهة حبيبها السابق إبراهيم الذي كان أحد صناع مأساة شبابها)، إلى الرجل الذي كان يتحرش بها، وهي مطمئنة تمامًا لعدم قدرته على بلوغ الفعل، ومنه إلى ابن أخيها طارق سيد عويضه الذي يستسلم في النهاية لطلب أمه بتطليق زوجته منال حتى يترشح لمجلس الشعب بعد موت أبيه وتصفه بأنه "خمورجي وبايظ".

إبراهيم الحبيب المتسبب في كل هذا الانهيار بسفره للدراسة في فرنسا، وتجاهله التام لقصة الحب وزواجه من أخرى ونجاحه وتعاليه على الطبقة وابنة تاجر المخدرات. الأخ سيد الذي يمثل نموذجًا لما فعله الانفتاح بالأشخاص الذين استغلوا هذه الفترة من حياة مصر في الصعود بسرعة إلى طبقة أخرى متخلين عن طبقتهم على الرغم من نوبات الحنين التي يمر بها سيد أحيانًا لرائحة طعام أخته وبيتها في الحي الشعبي بعد انتقاله للعيش في أحياء الارستقراطية لكنه يزيح مثل هذه المشاعر ويمنعها من التسلط عليه، خوفًا من السقوط في فخها، ويجعل صلة الوصل شبه الوحيدة بينهما زوجته الأكثر تطلعًا منه إلى الصعود الطبقي. الفعل الحقيقي له هو تخلصه من طبقته وأعبائها النفسية عليه نزوعًا لسلطة المال ونفوذه.

وسط كل هذه النماذج السلبية للرجال يظهر نموذج وحيد وحقيقي إلى حد كبير لكنه رومانسي هو هيدرا الذي يريد الزواج من غادة حتى لو كان الثمن المدفوع هو تغيير دينه والتخلي عن كل ما آمن به.

الشخصيات الفاعلة في الحياة بالإضافة إلى شخصية انشراح المهيمنة على الرواية هي من النساء: الجدة نرجس التي تحمل انشراح العهد، وهي إشارة واضحة لتواصل خبرات النساء عبر الأزمان حتى لو كانت من خلال معتقدات شعبية سحرية طالما أنهن يصدقنها. تلعب هذه المعتقدات التي تمسك بها نرجس دور العصب أو القوة التي تعتمد عليها النساء من ناحية، وتمسك بين أجزاء المجتمع بيد حديدية، من ناحية الأخرى. تذكرنا بحاملات القرابين، الصورة المنتخبة لحمل النساء للميراث الروحي والأخلاقي المحافظ والدفاع عنه بقوة من خلال شرايين ومسارات خفية تجمع بينهن، وتظهر في التكاتف، والتلاحم حين يتعرض المجتمع لهزة أو أزمة، أو حتى انهيار. 

ومن الجدة إلى ناهد المرزوقي التي تختلف رؤيتها كثيرًا في الحياة عن رؤية والدها مفصل القوانين، وغادة ابنة المناضل اليساري القوية العنيفة من الخارج الرومانسية أسيرة مبادئها وأفكارها وحبها الذي دفعها للرضوخ لاستغلال ابن خالها لها، والحياة معه في الظل، وحتى منال الطشطوشي التي تعرضت لاغتصاب حقها في الأمومة وتطليقها من دون ذنب والتي انقلبت إلى نمرة شرسة تستخدم جسدها لاصطياد الرجال لتحقيق طموحاتها المادية من أجل العودة إلى الطبقة التي لفظتها بدونية مبالغ فيها باعتبار أن الغاية تبرر الوسيلة

تقدم الكاتبة أيضًا نموذجًا للمرأة التي ارتقت على جناح صعود تيار الإسلام السياسي السلفي اختها ابنة الراقصة وتاجر المخدرات التي تصل إلى مجلس الشعب ليعيش المجتمع فصلاً آخرًا من فصول انكساره وانكشاف عوراته.

هي رواية مرثية للطبقة الوسطى وما جرى لها منذ صعودها بقيام ثورة يوليو 1952 إلى انكسارها في ثورة يناير 2011 

تتكئ الرواية على ساقين هما الألم الذي عانته شخصياتها بإحباطاتها المتتالية مع الأحداث العامة للمجتمع حتى تكاد أن تكشف بعض رموزه بصورة مباشرة، والوقوع في دائرة الخرافة والسحر من ناحية أخرى وإن كانت الخرافة والسحر يفتحان الباب أمام وعي سحري بأشكال أخرى من القوى المهيمنة مثل "فريل" وهي جمعية لاستنهاض القوى الداخلية وكذلك "السوماتي"، والوعي الليلي الذي يأخذ أشكالاً متعددة فيظهر في معظم الأحيان في أحلامها في صورة رجل ولهذا دلالته أيضًا وإن كان يظهر في صورة امرأة في بعض الأحيان.

اختارت الكاتبة التدفق الحر لكشف دواخل الشخصيات وجاء وعي انشراح بطلة الرواية النصف متعلمة في كثير من مقاطع الرواية أكبر كثيرًا من المتعلمين والنافذين في تجاربهم الحياتية وسعة اطلاعهم، وحركتهم في الدنيا من سفر ومشاهدات وعلاقات أوسع وأشمل. وإذا كان واقع الحال يفاجئنا بوعي الطبقات الشعبية الفطري العالي، إلا أنه يظل وعيًا فطريًا لا يصل لمدى معين ويحتاج إلى لغة تعبر عنه تتناسب مع تعليمه ولا تتفوق عليه ولا تنحو لمقولات فلسفية وفكرية لا يدركها هذا المستوى أصلاً ولا يستطيع فك دلالاتها ولا الوصول لمغزاها بسهولة وقد ظهر هذا بوضوح في مشهد اقناع غادة بعدم اللجوء للسحر لأنها تملك ما هو أكبر على الرغم من أن الفكرة قد تكون صحيحة تمامًا لكن التعبير عنها جاء بمستوى أعلى بكثير من تركيبة الشخصية ذاتها.

جاءت اللغة بسيطة تتداخل فيها العامية والفصحى أحيانًا حتى أنك تعجز عن إدراك متى تبدأ هذه أن تنتهي تلك، وكانت هذه إحدى سمات الرواية ومميزتها، فقد أضفت عليها حميمية بشكل ما.   

ويبقى عندي سؤال: هل يقوم المجتمع على فعل شخصيات إيجابية من النساء وحدهن في غياب الرجال الذين يقتلهم الادمان والبطالة فيصابون بالعزلة والتراخي، ويشكون في جدوى المبادئ والقيم فيحلون دمها؟ لا أظن.

 عمل أول جدير بالقراءة في انتظار الرواية الثانية لكاتبة تضيف للإبداع فصلا جديدًا.
---------------------------
بقلم: هالة البدري
من العدد 286 للمشهد الأسبوعي

مقالات اخرى للكاتب

في محبة الكاتبة الكبيرة لطيفة الزيات





اعلان