29 - 03 - 2024

في روسيا سطعت الشمس ليستمتع الزوار| قراءات في الهواء الطلق بمهرجان تشيخوف

في روسيا سطعت الشمس ليستمتع الزوار| قراءات في الهواء الطلق بمهرجان تشيخوف

المدن مثل البشر مدن تهش لك ومدن تعرض عنك، مدن تشتاق لها ومدن لا تذكرها. حلمت كثيرًا بزيارة موسكو. اتصورها بعراقتها وتاريخها العظيم وأدبائها الذين تربينا على أعمالهم ديستوفسكي، جوجول، تشيخوف، بوشكين، نابوكوف، شولوخوف، جوركي، ليرمونتوف، اذكر أبطالهم كأنهم عاشوا معي، وأحلق مع أبيات أشعارهم ودعواتهم للحرية وللجمال وعمق فلسفتهم للحياة، وتنتابني رغبة حقيقية لمتابعة الكتاب الروس المعاصرين الذين لا نعلم عنهم إلا القليل بعد أن اختفت ترجمات دار التقدم وتوارى الأدب الروسي بظهور الأيديولوجيات وضغطها على التعبير. لكني بعيدا عن الأدب أدرك على الفور مناخ موسكو القارس، الذي أنا ذاهبة إليه، والذي أهلك جيوش أعداءها.

 ذهبت إلى روسيا لحضور مهرجان تشيخوف الدولي الأدبي العاشر، الذي شارك فيه العديد من الكتاب من دول عديدة من العالم، ومن عالمنا العربي من بينهم: الكتاب فتحي امبابي، نبيل المحيش، ضحى عاصي، محمد رفيع.  حملت معي في ذاكرتي موقف الاتحاد السوفيتي من السد العالي، والعدوان الثلاثي، وكل مواقفهم السياسية الداعمة والخبراء الذين قدموا لمساعدتنا في أحلك أوقاتنا، وقد جاورتهم طفلة في بناء يسكنه بالكامل أسر لخبراء روس، وأسرة مصرية واحدة هي أسرتي. كان من الواضح لنا أنهم يشبهوننا كثيرًا في عاداتهم، الأقرب لعادات أسر الطبقة الوسطى المصرية في بدانة الزوجات، وفي رعايتها لأطفالها وفي طعامها المكون عادة من نبات الكرنب المطبوخ يأتي به الحارس يوميًا حتى أننا اعتدنا مشهد وقوف عربة كارو محملة بالكرنب أمام الباب.

   أذكر من هذه الفترة أيضًا القوة التي كانت مقترنة بكل صناعة روسية قوة تتخلى أحيانًا عن النعومة التي فرضتها دول شرق آسيا بعد ذلك. وكان وجود علامة صنع في روسيا دليل على طول عمر أي جهاز مصنوع. ولم يغب عن بالي اختلال القوى بغيابهم عن المسرح السياسي العالمي وانفراد الأمريكان بالقوة ليصولوا ويجولوا بفرض الأمر الواقع المزري على العالم كله، لكني ذاهبة لمهرجان أدبي في النهاية.

  فاجأني الانفجار اللوني للعمارة في موسكو بقبابها المثيرة الخارجة من كتاب ألف ليلة وليلة، والأحمر القاني لميدانها الشهير الساحة الحمراء المربعة الشكل التي تفصل الكرملين القلعة الملكية السابقة والقصر الرئاسي الحالي، عن الأحياء التجارية. وقد سمي بالساحة الحمراء بسبب المذبحة التي قام بها إيفان الرابع (الرهيب) انتقامًا لوفاة زوجته مسمومة. ارتبطت هذه الساحة بذكرى العروض العسكرية للجنود الروس الذاهبين للحرب أثناء حصار الألمان لموسكو، وعروض الانتصار بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، والكثير من العروض العسكرية في فترة الاتحاد السوفيتي، وأيضًا العروض الفنية الكبرى.

على الجهة المقابلة وقف مسرح البولشوي شامخًا يتحدى الزمن بما يقدمه من فن رفيع.  جعلتني الشمس التي ظهرت على غير العادة في هذا الوقت من السنة، اتحرك بحرية مع زملائي الكتاب العرب المدعوين إلى مهرجان تشيخوف الأدبي. فتحت موسكو ذراعيها وبشت كثيرًا لنا.

الدون الهاديء

طبيعي أن أول ما فكرنا به بعد زيارة الساحة الحمراء، بكل التداعيات الذهنية لتاريخها هو زيارة بيوت الكتاب الذين نحبهم، لكننا تهنا أثناء بحثنا عن منزل الكاتب الروائي والمسرحي الشاعر العظيم بوشكين، الذي يسمونه أمير شعراء روسيا، مؤسس الأدب الروسي الحديث. سألت أحد المارة فوصف لي الشارع الصحيح، وقعت عيني على حديقة على مستوى منخفض من الأرض، إذا اخترقتها تختصر المسافة. وحين نزلت السلالم الطويلة إليها وجدتني في مواجهة تماثيل لأحصنة مجمدة في نهر، وبجوارها رجل يجدف في قارب. 

 بحثت عمن يترجم لي ما كتب تحت التمثال فالقليل من الروس يتحدثون الإنجليزية، أو الفرنسية، قال الرجل: شولوخوف، تذكرت الدون الهاديء، والفلاحين القوقاز الذاهبين إلى الحرب بلا عودة، وأحجبتهم وتعاويذهم التي حصنتهم بها الأمهات لتحفظهم وتعيدهم سالمين، وكيف قتلوا وسط الثلوج، وداست الأحذية الأحجبة، والمشهد العجيب للعاصفة الثلجية وهي تجمد الأحصنة أثناء هروبها وعبورها للنهر.. بكيت، وشعرت أنه ناداني خصيصًا.

  انزعج زملائي من انفعالي المفاجئ، لأنهم لا يعلمون ما كان بيني وبين شولوخوف من أكثر من ثلاثين عامًا. كنت قد قرأت الجزء الأول من رواية "الدون الهادي" وأحببتها بشدة من ترجمة مصطفى الحسيني، وبحثت كثيرًا عن الجزء الثاني من دون جدوى. اشتريت طبعة بيروتية من جزأين، ثم اكتشفت أنها تقف عند الجزء الأول للحسيني أيضًا، وهكذا، للمرة الثالثة، ثم أخبرني أحد الأصدقاء أو ربما الحسيني بنفسه أنه فقد ترجمته للجزء الثاني أثناء انتقاله إلى منزل آخر، وأنها بالتالي لن تظهر، وظللت أبحث عن الرواية كاملة لسنوات إلى أن أعارتني إحدى صديقاتي بعد عشرة سنوات نسخة كاملة من أربعة أجزاء.

 قرر شولوخوف أن أقابله هنا بلا موعد مسبق ليرد لي شوقي وحيرتي، بما يناسب جلال اللقاء. هكذا نحن تربطنا صلات أقوى من كل ما يربطنا بالعالم المحيط. تربطنا أعمالنا وسحرها.

  احتفلنا بصدور كتاب سعادة السوبر ماركت أول مجموعة قصصية بالروسية للكاتبة المصرية ضحى عاصي من ترجمة منى خليل نائب رئيس مجلس الأعمال الروسي، وذلك في مكتبة الآداب الأجنبية، وهي واحدة من أكبر مكتبات موسكو بعد مكتبة لينين. استقبلنا على بابها تمثال لابن خلدون وسط تماثيل لكبار المفكرين في العالم. حضر التوقيع لفيف من المهتمين بالأدب العربي وقناة روسيا اليوم وحكى لنا إيجر سيز أحد المسئولين في معهد الترجمة أن المشكلة الحقيقية التي تواجه ترجمة الأدب العربي الآن هي قلة المترجمين، وانخفاض أجورهم مما يجعلهم يفضلون الترجمة التجارية على ترجمة الأدب وأن وصول الأدب المصري إلى السوق الروسي يحتاج بشدة إلى الدعم المصري من خلال المركز القومي للترجمة. وهأنذا أوجه رسالتي إلى الفنانة د. إيناس عبد الدايم وزيرة الثقافة لدعم هذا التوجه وتعريف الشعب الروسي بالأدب المصري المعاصر. كما منحت الأديبة ضحى عاصي الميدالية الذهبية لجائزة الاوليمب الأدبى الدولية لـ "أمانة الكلمة"، وهى جائزة تمنح من رابطة كتاب أوراسيا، وتضم داخلها أكثر من خمسين اتحاد كتاب، منها اتحاد الكتاب والمترجمين، اتحاد كتاب موسكو، اتحاد كتاب ضواحى موسكو، ونالت ضحى الميدالية رقم ١٢١ فى تاريخ الجائزة.

وعندما بدأت فعاليات المهرجان لاحظت أن إدارته تهتم بشدة برعاية الشباب واكتشاف المواهب الجديدة وأنهم يقيمون مباراة تنافسية في إلقاء الشعر شارك بها الأطفال في سن لا تزيد عن عشر سنوات، وهو مظهر حضاري أثارني بشدة وذكرني بما كانت تقوم به روسيا في الستينات من فرز الأطفال من أجل توجيههم إلى ممارسة الرياضة المناسبة لتكوين أجسامهم للوصول لنتائج رياضية كانت تكتسح بها الأولمبياد في ذلك الزمان، وهاهم يفعلون نفس الفعل لتشجيع المواهب الأدبية، ويبدو أنها نظرية عامة لتشجيع ممارسة كل الفنون. بل ودعوة أهل المدينة للمشاركة في نفس المسابقة، بجانب كبار الشعراء من مختلف انحاء العالم.

زيارة منزل تشيخوف أثارت الكثير من الحنين لأعماله التي مازالت تضعه على أعلى قمة لكتابة القصة القصيرة في العالم. تشيخوف (1860-1904) هو واحد من المع الكتاب الروس: مسرحي وقاص كتب مئات القصص وتعتبر مسرحياته: بستان الكرز، والخال فانيا، والنورس، والاخوات الثلاث، من أهم ما كتب في الدراما المسرحية، وهو طبيب مارس الطب حتى وفاته المبكرة عن أربعة وأربعين عامًا. وقد حصل تشيخوف على جائزة بوشكين في الأدب كأول جائزة له عن مجموعته القصصية في الشفق.

اشترى هذا المنزل على البحر الأسود بسبب تدهور حالته الصحية وإصابته بالسل في آخر سنوات عمره القصير. باع حقوق نشر أعماله وامتلك مساحة كبيرة من الأرض جعل منها ضيعة فاخرة، وحديقة غناء زرعها بنفسه، وتم بناء بيت أنيق بسيط من طابقين على عجل في عشرة شهور. تجولت في الأروقة وأنا اتخيل كيف كان يكتب العروس، والأسقف، والسيدة صاحبة الكلب، هنا في هذا المكان أو في الحديقة حيث كان يجلس على المقعد مع جوركي أو تولوستوي. دخلت حجرة أمه التي صاحبته طوال وجوده في المكان وكذلك أخته ماشا التي كتب لها الكثير من الرسائل حين سافر إلى المانيا والتي عاشت تحافظ على المكان بعد وفاته وحولته إلى متحف جميل. رأيت بالخيال زوجته الفنانة الممثلة أولجا كينبر تتبختر مختالة كفنانة وبطلة مسرحية لكل أعمال زوجها، تهتم بعملها في موسكو ولا تستمر في العيش طويلا معه في المكان الذي اسماه منفاي أو سيبيريا الدافئة، أو بيلايا داشا. تشيخوف المرح صاحب الحس الفكاهي الذي تفاجئك سخريته كتب في هذا البيت خمس وستين قصة وعدة مسرحيات.

انتقلت لي مشاعره بالدفء ونظرات عينيه القلقة، بل رأيت ابتسامته تشرق على وجهه الصبوح ليس من خلال الصور والتماثيل بل من خلال روحه التي لازالت تعبق المكان بوجودها، وحب الناس لها، واهتمامهم. تذكرت حملة صحفية كنت قد قمت بها لإنقاذ فيلا أم كلثوم حين قرر ورثتها بيعها، وقال لي المقاول الذي اشتراها أنه سيخصص طابقين لمقتنياتها، وضاع الوعد مثل وعود كثيرة وهدمت الفيلا، ليقوم بدلاً منها برج قبيح لا يعترف بالفن ولا بالفنانين

 كرم المهرجان رواده وضيوفه الأدباء، وتحركت ضحى عاصي في المهرجان بكل حب تقدم المساعدة للكتاب العرب سواء في ترجمة كلماتهم أورعايتهم فاستحقت جائزة خاصة هي جائزة الأوليمب من اتحاد كتاب روسيا والاتحاد الأوروآسيوي عن دورها في تقريب الآداب الأجنبية إلى الروسية أثناء المهرجان.

عدت بالكثير من الصداقات وبشوق لعودة تروي العطش الذي لم يرتو، لمدن لها عراقة أهلها، وتاريخهم الإنساني العظيم.
-------------------------
رسالة موسكو - بقلم: هالة البدري
من المشهد الأسبوعي






اعلان