10 - 11 - 2024

الديكتاتورية .. والشعوب المنخنقة والنطيحة والمتردية

الديكتاتورية .. والشعوب المنخنقة والنطيحة والمتردية

اقرأ التاريخ أو انظر حولك، وستجد أن الشعوب التي وقعت أو لا تزال واقعة في قبضة سلطة ديكتاتورية، هي شعوب تتطور فيها المعاناة لتحيلها أولا إلي شعوب "منخنقة"، ثم تنقلها إلي شعوب "نطيحة"، ثم ينتهي بها المطاف وقد أحالتها إلي شعوب "متردية" ... كيف؟

لا تطيق الديكتاتورية صوت شعوبها، فتضيق عليها الخناق، وتحرمها حرية التعبير والتفكير والاختيار والنقد والمشاركة والمراجعة والمساءلة والمحاسبة، ولأنها كماء البحر المالحة، فهي لا تروي ظامئا لسلطة، ولا توقف ساعيا لثروة، ولا تردع متلذذا بفساد، ومن ثم يظل شغفها بالتضييق علي شعوبها يتصاعد بلا نهاية، حتي تتلاشى مساحة الحركة، ويشيع الاحساس بانسداد الرؤية، وفقدان الأمل وتسرب المستقبل، والعيش كما قطعان الماشية تحت هراوة الراعي، وهنا يكون الناس قد دخلوا في زمرة "الشعوب المنخنقة".

في الشعوب المنخنقة، تخور العزائم وتنكسر الروح، ويتفشى اليأس والإحباط، ويضمحل الانتماء، ويفتر الحماس لأي شيء، ويضيق الصدر بكل شيء، ويشيع الكذب، ويسود النفاق والأنانية والنزعة الفردية الانسحابية، وتنتشر الحساسية من كل شيء ولأتفه شيء، ويتعاظم التدافع علي أي شيء به رائحة للقيمة، حتي لو كان سرابا زائفا.

في هذا السياق الخانق، يسود الهرج والمرج، ويكون التخبط نمط حياة، ومن ثم يصبح الناس هدفا دائما لضربات وهجمات ولكمات ونطحات، تأتيهم من كل اتجاه بعشوائية وعبث غير قابل للتفسير معظم الاحيان، وعند هذا الحد يكون الناس قد دخلوا الطور التالي من المعاناة، وهو طور "الشعوب النطيحة"، التي تعيش تحت وطأة الاختناق وآلام النطح معا.

والشعب الذي تصل به الديكتاتورية إلي طور "الشعوب النطيحة"، سرعان ما يبدأ رحلة السقوط والانزلاق لأسفل نحو هاوية بلا قرار، من مشكلات معقدة، وصعوبات متشابكة، وازمات متولدة عن ازمات سابقة، تتحول سريعا إلي رحم لأزمات لاحقة، بلا بادرة واحدة تمنع السقوط لأسفل، أو حتي تهدئ سرعته، وهنا تكون الشعوب قد دخلت ضمن زمرة "الشعوبة المتردية" أو التي يتساقط أعضائها ومكوناتها تباعا، في أخاديد عميقة، في الدرك الاسفل من الأرض، حيث مراتع الدود، التي تبيد ما يصل إليها وتحيله ترابا واثرا بعد عين.

حركة المجتمعات بطبيعتها لا تجعل الديكتاتورية تحرك الشعب الواحد ككتلة واحدة، وتنقله من طور المنخنقة الي النطيحة الي المتردية، بل تجعل الانتقال متنوعا في درجته وسرعته، ومستوي ما يضعه علي كاهل الناس من معاناة، ولذلك قد تجد فى وقت واحد شرائح من الشعب في زمرة " المنخنقة" التي لا تكاد تتنفس، وشرائح اخري أقل أو أكثر في زمرة "النطيحة" التي تختنق وتتلقي الضربات في وقت واحد، فيما شريحة ثالثة راحت تتردي وتسقط في قاع الاخاديد الضيقة لتلقي مصيرها المحتوم.

كل إنسان علي وجه الارض، يمكنه أن يتلمس ويتحسس موضعه، ويعرف هل يتنفس بحرية، أم منخنق، أم منخنق ونطيح في ذات الوقت، أم اختنق ونطح، ثم دفع به إلي حافة التردي، أم بدأ يتردى فعلا واخذ طريقة لمراتع الدود.
--------------------------
بقلم: جمال محمد غيطاس

مقالات اخرى للكاتب

المؤتمر العام السادس لنقابة الصحفيين وفخ