أكتب هذا المقال يوم 6 أكتوبر.. صمت الإجازة الرسمية للاحتفال بالنصر، سكون الشارع يعيد تفاصيل تترسخ وتتكشف مع الزمن ولم تسقط أبدا من الذاكرة.. يومها استيقظنا على دوى أقدام أولادنا جنودنا تهدم خط بارليف، تعبر بجسارة وعزم، تقتحم مأوى العدو وتشل حركته وتفكيره.. شاهدنا بأعيننا طوابير أسراهم!! ظللنا نتابع البيانات العسكرية بحذر مشوب بخلع القلب، نقمع التصديق، ونحبس الفرح!! لأننا انخدعنا في 67 ببيانات كاذبة أجهضت كل شيء حتى الحلم بحياة كريمة.. لم نعد نصدق البيانات والتصريحات الرسمية كالأطفال كما عودنا عبد الناصر.. أصبحنا نشك ونجادل ونطلب أدلة إثبات وضمانات من كثرة ما لطمتنا أمواج من المحن المتتالية عبر ثلاثة عهود، أدت بنا إلى ما نحن فيه الآن من تربص وشك وتقييم لكل تصريح يصدر من مسؤول.. أصبحنا سريعي الغضب فاقدي الصبر بعدما أنضجتنا الأحداث، وتغيرت معطيات الحياة.. أصبح إخفاء الحقيقة مستحيلا، وتجميلها مفضوح.. لم تتغير طبيعتنا الشرقية التي تتغلب فيها المشاعر على العقل، لكن أصبحت المشاعر في خدمة العقل وليس العكس، لأننا استعدنا البصيرة واكتوينا من نتائج حكم الفرد، ومن الحلول الأمنية، ومن الفساد.. والنتيجة أن الشعب تغيٌر أسرع من حكامه!! الشعب تحرر بالمعلومات وبالغضب، وبالحق في الحياة، تاركا سجونه للسجانين، وهذا هو قانون الحياة والتاريخ شاهد.
على مواقع التواصل اليوم انتشر فيديو -هو بالفعل أبيض واسود- للقاء السادات بجولدا مائير قبل توقيع معاهدة السلام.. حوار صاخب الضحكات بين الثعلب المكار والحية الرقطاء.. تبادر الحية بالالتفاف الناعم بأنها انتظرت لقاء السادات وجها لوجه – كان واحشها سياسيا- وبأنها هي العجوز كما اعتاد تعريفها – يعني مراقبينك – وإن أمنيتها تحققت وجاء اليوم لترى توقيع معاهدة السلام بينها وبينه، وبين الجيران وبعض!! وشكرته على هديته لحفيدها ثم قدمت له أمام العالم هديتها لحفيدته الجديدة معلنة عهدا جديدا بين الأعداء!!
الفيديو فتح جروحا كثيرة، واستدعى مشاهد من حاضرنا، هي نتاج سياسات شخصية وعالمية.. لم نكن نحن الشعب طرفا فيها، بل عشنا مفعولا به مجرورا بوعود بحياة كريمة.. استنزفنا عهد عبد الناصر في وعود أكدتها أغان عاطفية كبلتنا حتى ألقتنا في أتون هزيمة 67.. خرجنا إلى انفتاح السادات على العالم، انفتاح مفاجئ دون تحضير أو دراسة جدوى، ساد الفساد والانتهازية والمادية والأنا، وانزوى الشعب في الاتكالية حصنا مكشوفا!! سقط السادات غدرا يوم احتفاله بنفسه، وجاء مبارك.. بدأ بالإفراج عن المسجونين السياسيين فاستنشق الشعب نسمة حرية، لكنه انتهى بسجن الشعب في بؤر الفساد والإهمال الإداري، وأصبحت الحياة في مصر طاردة، وأغرقنا الاعلام في وهم فساد الحاشية دون الحاكم!! وظهر مرسي رئيس كارتونيا، فخرج اللصوص من مخابئهم، أكلوا الأرض الزراعية وسرقوا كنوز الوطن من بشر وتراث وباعونا وفتحوا حدودنا وخزائننا.. خرج غالبية الشعب المصري يلبي نداء الجيش ويثق في وعد الإنقاذ.
واليوم بعد 46 عاما على ذكرى نصر أكتوبر.. لم نعد شعبا ينتظر عمرا ليحصد ثمار صبره وتضحياته، فقد أعطينا الكثير، وأصبح واقعنا قاسيا، ومالت كفة الشعب في الميزان.. ننظر حولنا فلا نعرف لا معالم وطننا ولا مكان ميلادنا ولا شارعنا!! المعاول والتشويه أذرع اخطبوط هائل يكاد يدور حول أعناقنا.. حتى ملامح المصريين تغيرت.. سادت أخلاق الزحام وفقدان الأمان، تجددت أيام صلاح نصر وحكاياته وتكثفت رياح الخوف فوق رؤوسنا، فماذا ستمطر!! نسترجع كلمات صلاح جاهين التي ألهبت الوطنية والعزائم فيغشانا غموض ونثبت مكاننا!! مجلس شعبنا يصدر ويؤجل القوانين وفقا للتوجيهات وليس لإحقاق العدل والحق!!
عشنا وهم العدالة الاجتماعية، صدقناه، ولكن الواقع مُحير.. صوت الشعب صارخ في البرية، مجلس الرصد يتربص بنا ويتنصت علينا بدءا من مواقع التواصل إلى النقابات المهنية!! هل نقف على حافة منحدر الخوف!! أم نتجه لقمة جبل الحرية لننجو من تصالح الثعالب؟
--------------------------
بقلم: منى ثابت