14 - 05 - 2025

انتخابات تونس: مائدة مرشحين متنوعة إلى حد الإرباك وشتات بين "حلاوة" و"كراهية" الديمقراطية

انتخابات تونس: مائدة مرشحين متنوعة إلى حد الإرباك وشتات بين

- السؤال الملح: خلف من تصطف الماكينة الانتخابية للنظام القديم .. وحزبه المنحل الذي كان متداخلا مع الدولة

قبل نحو ثلاثة اسابيع من يوم التصويت في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة بتونس وأيضا قبل أيام معدودة من انطلاق الحملات الدعائية لمرشحين يبلغ عددهم 26 مرشحا و،فق قائمة أولية قابلة للزيادة والنقصان وإلى حين اعلان القائمة النهائية 31 اغسطس الجاري كتب صديقي التونسي " كريم مرزوقي " على صفحته بالفيس بوك . و"كريم"شاب في منتصف العمر مثقف وواع، محدد الانحيازات والاختيارات، تعرفت عليه خلال فترة اقامة امتدت لنحو عامين في بلاده، وقد كتب قائلا :

لمن سأصوت في الدورة الأولى؟ لم تتملكني حيرة في التصويت منذ أن انتخبت لأول مرة عام 2011 ( المجلس التأسيسي المكلف بوضع الدستور الجديد) كان الخيار وقتها ثم في انتخابات 2014 ( التشريعية والرئاسية ) و2018 ( البلدية ) ليس عسيرا. وجدت ضالتي بيسر ولم أندم على أي خيار.وهذه المرة أجد استعدادا سياسيا ونفسيا للتصويت لـ 4 مترشحين. والخيار قطعا لأحدهم. وأكاد أقطفه على أساس معايير تفاضلية منها ـ وهذا الفاصل ـ أن يكون صوتي مفيدا في دفعه نحو المرور للدورة الثانية، إذ لا أريد أن يذهب صوتي هباء لمرشح معدوم أو ضعيف الحظوظ ،ويسعى لمرتبة "مشرفة" لا أكثر في استحقاق قد تكون مآلاته حاسمة في على مسار البناء الديمقراطي. ولكن سأنتظر المناظرة الرئاسية لتأكيد الخيار أو إلغائه . وهذه المرة قد أكتب ورقة لنفسي أفسر فيها تفصيلًا خياري، وأضعها في صندوق أوراقي القديمة، كي أعود إليها يوما ما. نعم هو صوت يتيم من ملايين الأصوات ولكن أراه عظيما تجاه نفسي يستحق أن أعصف ذهني وأقنع نفسي أشد اقتناع كي أذهب واثق الخطوة يوم الانتخاب، وكي أتجاوز رهبة الخلوة باقتدار. وتلك رهبة عظيمة حينما ترى أسماء المترشحين أمامك. وعليك أن تختار اسما يراه ضميرك، ولا شيء غيره أنه يستحق ثقتك".

هذه الكلمات تعكس جملة معان في لحظة مهمة في تاريخ تونس . بل والمنطقة العربية التي اضافت الأشهر القليلة الماضية الى طموح شعوبها نحو التغيير والديمقراطية دخول ثورة السودان الى مرحلة الانتقال لحكم مدني رشيد  وحراك الجزائر الذي مازال ينتظر على أبواب الانتقال. وهذا باعتبار أن انتخابات تونس رئاسية وتشريعية ( والأخيرة في 6 اكتوبر وهي الأكثر اهمية في نظري وبمقتضي النظام السياسي ودستور ما بعد الثورة ) مسألة تهم الوطن العربي، لا الأوروبيين والأمريكيين وحدهم.. فهي محل اهتمام حتى من هم أبعد جغرافيا كاليابانيين. وهكذا كما تنبهت على مدى الاستحقاقات الانتخابية المتتالية من الاقتراع من أجل المجلس التأسيسي أكتوبر 2011، فالبرلمان ورئيس الدولة اكتوبر ونوفمبر 2014، فالبلديات مايو 2018. 

و كلمات "كريم" تعكس حيرة ناخب واع إزاء انتخابات غير معلوم نتائجها سلفا، وصعوبة الاختيار حتى بالنسبة للناخب المحدد التوجه والاختيارات. ناهيك عن ثقة لا بأس بها تحيط بالهيئة المشرفة على الانتخابات وفي حيادها وآلياتها بالتعاون مع مجتمع مدني متنام يقظ ومؤسسات دولة محل تقدير كالمحكمة الإدارية المنوط بها النظر في الطعون الانتخابية. وكل هذا من "حلاوة الديمقراطية" التي يقدرها بحق المحرومون من حرية الترشح والاختيار و نزاهة العملية الانتخابية وهيئاتها . لكن كل هذا ـ من جانب آخرـ لا يعني أن الانتخابات تجرى بتونس في مناخ مثالي أشبه بغرف العمليات المعقمة . فميلاد الديمقراطية عسير في مجتمعاتنا المنكوبة بطول الاستبداد والفساد. ونكتفي في هذا السياق بالإشارة الى سلبيات غياب التكافؤ الكافي بين المرشحين بالنظر الى أموال وإعلام الداخل والخارج. ناهيك عن الأثر الممتد على قطاعات من الناخبين لعقود الافقار والجهل وتحريم وتجريم السياسة والمعارضة. ويضاف أيضا هنا الى السلبيات والمحاذير الاحباط الناجم عن اخفاق سنوات التحول الديمقراطي بعد الثورة عن معالجة البطالة والتهميش وتدهور الاقتصاد والتصدي لأشكال قديمة وجديدة من الفساد. وزد على هذا "كراهية الديمقراطية " و الاستهزاء بها والتنفير منها. وهي دعاية تكثفتاقليميا وداخل تونس انطلاقا من عام 2011. وفي كل هذا ما قد يدفع تونسيين سريعا الى اليأس من امكانية التغيير و الحنين الى ما قبل الثورة، ما ينعكس على انخفاض في الاقبال على صناديق الاقتراع استحقاقا تلو آخر . 

 ومع هذا فإننا ازاء انتخابات رئاسية تحمل الى الناخبين اختيارات متعددة على مستوى العائلات السياسية والشخصيات المطروحة داخل كل عائلة واحدة. وإذا جاز لنا وعلى مستوى هذه الانتخابات أن نقسم هذه العائلات في تونس اليوم إلى أربع،  سنلاحظ ان تلك المسماة بـ"الوسطية الحداثية" التي تنتسب إلى تراث زعيم النضال من أجل الاستقلال و مؤسس الدولة الوطنية الحديثة "بورقيبة" يتنازع تمثيلها ثمانية مرشحين بارزين على الأقل. و أكثرهم شهرة و أوفرهم حظا في لحظة ما قبل انطلاق الحملة الدعائية أربعة هم: وزير الدفاع المستقيل "عبد الكريم الزبيدي". وهو يوصف بأنه "تكنوقراط" على الرغم من شغله لمناصب وزارية وحكومية في عهد الرئيس المخلوع "بن علي" . كما يخوض الانتخابات مستقلا مع انه يحظى بدعم ما تبقي من حزب "نداء تونس" تحت سيطرة "حافظ" نجل الرئيس الراحل "الباجي قائد السبسي" مؤسس " النداء" ورمز العائلة الوسطية الحداثية الأبرز الذي تمكن وحزبه في انتخابات 2014 من التفوق على النهضة على قاعدة الاستقطاب حينها بين المشروع الحداثي والمشروع الإسلامي .. والمرشح الثاني ضمن هذه العائلة هو  رئيس الحكومة "يوسف الشاهد" الذي فوض صلاحياته الى أحد وزرائه إلى انتهاء الدعاية الانتخابية.وقد ترشح عن "تحيا تونس" الوليد في السلطة وبوصفه الانشقاق الأهم في مسار " النداء" ..  والثالث هو رجل الأعمال "نبيل القروي" صاحب قناة "نسمة"المتهم بالاستثمار في معاناة الفقراء بحملة مساعدات خيرية تلفزيونية دامت نحو ثلاث سنوات تحمل اسم ابنه الذي لقي مصرعه في حادث مرور "خليل ". وقد أسس حزبا بدوره حزبا وليدا  لأغراض انتخابات 2019 اسماه باللعب على الوتر الانساني الخيري التلفزيوني  ذاته " قلب تونس"، ومساء الجمعة الماضي  القت الشرطة القبض على "نبيل القروي" بشأن اتهامات بغسيل الأموال والتهرب الضريبي ناهيك عن تأكيد القضاء على قرارات سابقة بمنعه من السفر وتجميد أمواله. بينما اتهم حزبه وقناته التلفزيونية الشاهد بمحاولة اقصائه من السباق الانتخابي. وتحل " عبير موسى" مرشحة الحزب الدستوري الحر رابعة ضمن هذه العائلة، وإن كان تطرفها في انكار حقيقة ان ثورة وقعت في البلاد وسفورها في المجاهرة بفضائل الدكتاتور المخلوع "بن على" وطلبها إقصاء خصومها السياسيين وحبسهم في خطاب شعبوي يميني اقرب الى "الفاشية " يدفع رموزا عدة من العائلة " الوسطية الحداثية" للتبرؤ منها . وهنا فإن السؤال الملح هو: خلف من ستصطف "الماكينة الانتخابية" للنظام القديم وحزبه المنحل " التجمع الدستوري " الذي كان متداخلا مع جهاز الدولة ؟ وهل يقبض الشاهد بحكم منصبه وخيوط  جهاز الدولة ورابطه على مفاتيح هذه "الماكينة" الأكثر تأثيرا في الانتخابات بعد الثورة الى جانب ماكينة حزب "النهضة. وهكذا وحدهما  وبدون منازع جدي على المرتبة الأولى من ماكينة ثالثة؟.. أم ستتشظي هذه "الماكينة" ـ وبعدما كانت موحدة خلف نداء تونس الموحد ـ بين أكثر من مرشح في المرحلة الأولى انتظارا لما سيكون عليه مرشحا الجولة الثانية ؟ 

وبدروها عائلة التيار الإسلامي يتنافس على تمثيلها أربعة مرشحين، وإن كان الأقوى بينهم دون منازع هو مرشح حزب حركة النهضة "عبد الفتاح مورو" رئيس البرلمان بالنيابة حاليا. ولعل في قرار ترشيحه الصعب الصادر من مؤسسات الحزب دلاله اقليمية تفيد بتخطي عقدة رهاب وخوف ما جرى للإخوان في مصر 12/2013 .وهذا مع ادراك المتابع عن كثب وقرب لمجريات السياسة بتونس والمتحرر من التضليل السياسي الدعائي لأعداء الثورة في عالمنا العربي بأن نهضة تونس غير اخوان مصر وكون السياق التونسي يختلف عن السياق المصري ولو نسبيا. و"مورو" محامي اجتاز تعليما عصريا في المدرسة "الصادقية"، وينتمي لعائلات العاصمة تونس القديمة المعروفين بـ " البلدية" (بكسر الباء) تماما كـ " سي الباجي السبسي"، ويتمسك بالملابس التقليدية الوطنية التونسية ( أساسا جبة للبدن وشاشية للرأس) التي قد تدفع غير العارفين بالحياة الاجتماعية في تونس الى اعتقاد انه شيخ دين معمم . وأيضا كالرئيس الراحل يمتلك "مورو" قدرات اتصالية مع مواطنيه بلسان طليق فكه وبإجادة العامية وأمثالها و العربية وأشعارها والفرنسية وآدابها. وهذا على عكس تواضع حظ "الزبيدي" في  مجال الإتصال المباشر. ويأتي تاليا "لمورو" بين أبناء هذه العائلة الإسلامية ولكن على مسافة بعيدة رئيس الحكومة الأسبق "حمادي الجبالي" المستقيل من "النهضة" .وبالطبع فإن ماكينة هذا الحزب الانتخابية موحدة من الجولة الأولى خلف "مورو".

ومن جانبها، يتوزع تمثيل العائلة اليسارية على ثلاثة مرشحين على الأقل، يتقدمهم "حمة الهمامي" الذي حل ثالثا في رئاسية 2014. ولكنه يتقدم ممثلا "للجبهة الشعبية"هذه المرة وقد  ضربها قبيل الانتخابات انشقاق غير مسبوق منذ تأسيسها في أكتوبر 2012 .انشقاق شتت كتلتها البرلمانية (15 من اجمالي 217 نائبا ) . وهاهو "الهمامي" يخوض الرئاسية في مواجهة النائب ومقرر لجنة المالية بالبرلمان "منجي الرحوي" الذي يمثلشقا آخر في الجبهة، ويدخل الى الانتخابات تحت عنوان "حزب الجبهة الشعبية". وكلا المرشحين يعبر عن تناحر تاريخي داخل الحركة الطلابية وكذا منظمات اليسار السرية منذ السبعينيات بين حزبي "العمال " و"الوطد".وثالث اليساريين المرشحين للرئاسة هو"عبيد البريكي" النقابي السابق في اتحاد الشغل والوزير السابق بحكومة الشاهد مرشح الحزب الوليد " تونس الى الأمام".أما العائلة الرابعة المسماة بـ " الثورية " ـ مع ادارك التداخل بين العائلات وبخاصة الثورية واليسارية ـ فينتسب اليها بدورها خمسة مرشحين على الأقل.و يتقدمهم في الحظوظ ثلاثة أعلام: المرشح المستقل  واستاذ القانون الدستوري " قيس سعيد ".وهذا على الرغم من آرائه المحافظة على الصعيد الاجتماعي وبالنسبة للمساواة في الميراث بين الرجل  والمرأة.. والرئيس الأسبق "منصف المرزوقي" الذي نافس "السبسي" في الجولة الثانية لرئاسية 2014، وإن كان من غير المعلوم هل سيتمكن من الاستثمار مرة أخرى جراء انتمائه للجنوب و المناطق الداخلية المهمشة الأقل حظا من مدن وحواضر الساحل ومظلومية ضحايا " البورقيبية" وعهد "بن على"، أم سيلاحقه الاخفاق في طموح بناء حزب "حراك تونس الإرادة"،وكذا حملات إعلام رجال اعمال نظام ما قبل الثورة.وقد نالت هذه الحملات المتواصلة منه كثيرا ومن أهليته كـ "رجل دولة" بالمعني الكلاسيكي والبورجوازي؟ .. وثالث ابرز المرشحين فيما يسمى بـ " العائلة الثورية " هو المحامي "محمد عبو" رئيس حزب "التيار الديمقراطي" الذي حقق نتائج طيبة لافتة في الانتخابات البلدية 2018. 

وفيما سبق صورة مبسطة مختصرة لمائدة مرشحين متنوعة متداخلة أمام الناخب التونسي، وإلى حد الإرباك. وما يزيد من صعوبة التكهن بالنتائج أن الكثير سيتوقف أيضا على اداء المرشحين وحملاتهم خلال فترة الدعاية الانتخابية قبل الاقتراع صباح 14 سبتمبر المقبل. وأيضا فإن جانبا من الحسابات يتوقف على محصلة الصراع خلال الأيام المقبلة بين الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والمجتمع المدني الديمقراطي والصحفيين الأحرار من جانب وبين القوى والعوامل المفسدة والمعرقلة  للانتقال الى الديمقراطية من جانب آخر. وهذه المرة على نحو خاص فإن الحفاظ على المصداقية التي اكتسبتها هيئة الانتخابات تونسيا واقليميا وعالميا يتعلق بالنجاح في التصدي لما يسمي بـ"المال السياسي" والاخلال بحياد الإدارة وأجهزة الدولة.  ولكن يصعب الزعم بأن عاملا او متغيرا واحدا مما أشرنا اليهم في السابق قادر على أن يحسم النتائج، وبما في ذلك المنغصات المشوهة للديمقراطية ولحرية الانتخاب.بل والأرجح أن تونس ستعرف جولة ثانية بين المرشحين الإثنين الأعلى في حصد الأصوات. ومن الحماقة الآن وفي هذه اللحظة التوقع بثقة من هما على وجه التحديد واليقين؟. وعلى سبيل الاستدلال، فإن استطلاعات الرأي المصرح بنشرها قبل حظرها بحلول منتصف يوليو الماضي لا تمنح أيا من المرشحين البارزين للرئاسة نسبة تجاوز الخمسة والعشرين في  المائة بأي حال . 

لكن يكفي لترجيح أن تونس ستكون أمام جولة ثانية كون ان خريطة المرشحين في رئاسية  نوفمبر 2014 كانت أقل تعقيدا وأكثر وضوحا  بين 27 مرشحا في الجولة الأولى.ومع هذا جاءت جولة ثانية مثيرة بين "السبسي" و"المرزوقي". وربما في هذا وجه من وجوه "حلاوة الديمقراطية" على الرغم من السلبيات بل والمنغصات و المفسدات.. وأيضا  رغم أنف "كراهية الديمقراطية" .
---------------------
بقلم: كارم يحيى 

من المشهد الأسبوعي.. اليوم مع الباعة