25 - 04 - 2024

في فقه المرحلة الإنتقالية

في فقه المرحلة الإنتقالية

دونما القراءة الثاقبة في التاريخ لن نستطيع تأمين عبور سلس إلى المستقبل. التاريخ ليس علم الماضي. بل هو كما يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي علم الحاضر والمستقبل. قراءة التاريخ لا تعني تتبع حكايا الزمن الفائت. هي وعي يكسب القاريء تجارب الأجيال السالفة. لذلك أصبح إختصاصيو التاريخ الإجتماعي أعلى كعباً من المؤرخين السياسيين. مسيرة أي ثورة ليست سوى فصل من فصول التاريخ. بما أن التاريخ يتخذ مسارات حلزونية فإن أي ثورة لا تسير في خط عامودي متسق.

أول أولويات الثورة يتجسد في الإيمان المطلق بإمتلاك إرادة التغيير لجهة غدٍ أفضل. من يقصر نظره على الحاضر كمن ينشغل بالماضي من ثم يخسر المستقبل، كما قال الرئيس الأميركي جون كنيدي. من الصعب إن لم يكن مستحيلاً محاولات التقيد بأنموذج سابق الإعداد "كاتلوج" بغية إنجاز أي من مراحل الثورة. المهم جذوة الطموحات إذ هي تشكل طاقة محرّضة للإندفاع نحو الغد. 

جهود النقد والتقويم ضرورة من أجل تجاوز المطبات. ذلكما وحدهما لايؤمنان العبور السلس. على قدر وعينا بالتاريخ وقناعاتنا المشتركة بإحداث التغييرنستطيع التوثب لجهة المستقبل. أول شروط التحقق من الوعي بالتاريخ يتشخصن في إنتزاع عقلنا الجمعي من تربة التفكيرالعشوائي البغيضة مصدر شقاواتنا المزمنة.

إقتلاع النظام القديم لا يعني نجاح الثورة الكامل. تلك غاية لا تتحقق فقط بالإستيلاء على السلطة. ذروة النجاح تتمثل في إستبدال منظومة قيم العلاقات السياسية، الإقتصادية، والإجتماعية الشائهة المكرسة تحت مظلة نظام الإنقاذ. تلك أهداف لن يتم إنجازها ما لم يتواصل عمل دؤوب على درب رفع مستوى الوعي الجماهيري إلى لحظة الفعل الثوري المستهدف. ثورتنا المتقدة لا تعاني من مثل هذه الأعراض والأمراض. الحراك الجماهيري يثبت إمتلاكه وعياً مبهراً بالوعي وبلحظات الفعل الثوري. هو نفسه رأسمال التغيير الباذخ لكل قيادة تستهدف تحقيق أحلام الثورة.

بما أن عمليات التغيير والعبور محفوفة دوماً بالمصاعب، يكون التباين في وجهات النظر أقرب من الإجماع. ذلك يصبح ميسماً غالباً عنما تتم عملية الثورة – كحالنا – عبر احتجاجات شعبية تفتقر إلى العقل المنظم أو تغيب كذلك القيادة الملهمة. وقتئذٍ تتعالى صيحات الجماهير ضد التسويات والإجراءات الإصلاحية غير الجذرية. لذلك لم يكن مستغرباً بروز هذه الظاهرة سمة ملازمة لمنعطفنا الثوري الراهن.

الخوف ليس من تصاعد أصوات النقد تجاه السلطة أو القيادة المركزية المفترضة للمرحلة الإنتقالية. الخطر الحقيقي يكمن في  مصادرة مساحة الإختلاف في الرؤى بحجة حماية السلطة الوليدة أو تلك القيادة المركزية. الثابت المكتسب من التجربة التاريخية إستحالة إنجاز تغيير ثوري جوهري خارج مناخ ديمقراطي. الأكثر خطورة من ذلك على مسار العملية الثورية تحول تباين رؤى القوى داخل معسكر الثورة إلى تيارات  متشاكسة، فمتنازعة فمتصادمة ثم متصارعة. ذلك خطر تتعاظم تداعياته السالبة كلما انجرفت بعض التيارات لجهة الإستقواء بالخارج رغم القناعة باستحالة تحصين الساحة المحلية ضد إنعكاسات التقاطعات الخارجية. 

ملامح قسمات الإدارة الحكومية المرتقبة توفر مدى الإطمئنان على تخليق مجموعة ذات رؤية ثاقبة، متجانسة، مصادمة، متماسكة في وجه الضغوط على نحو يستقطب إعجاب الجماهير فتمنحها الشرعة والسند. من الأهمية القصوى تبني الإدارة الحكومية المرتقبة منهجاً حداثياً في بناها الذاتية ينأى بها عن الإنقسام، يسمو بها فوق الإغراءات تنفتح به على ممارسة النقد الذاتي وتقبل الرأي المغاير. فن الحكم كما قال محمد أحمد محجوب؛ يتطلب إلى جانب الخبرة نزاهة ومتانة في الخلق.

طموحنا لم يستهدف استبدال الوجوه الشاغلة مقاعد السلطة بل الحفر العميق من أجل تغييرالسياسات والمناهج  بغرس عقلية حداثية حديثة. من أكثر مظاهر النأي عن تربة العقلية المهترئة الصدئة التحررمن قبضة المحاصصة. تلك عاهة أثقلت كاهل الدولة والشعب بأعباء ثقال. هي مطية يركبها البعض في سبيل تحقيق امتيازات ذاتية. رافعو شعار المحاصصة من أجل مكافحة الإقصاء هم أكثر الإقصائيين تشبثاً بالماضي البغيض. هم أضيقهم نظرة وأوسعهم نهماً لقطف المكاسب الضيقة. الثورة من أجل السودان الحديث لا يتم إنجازها بآليات التخلف العتيقة االصدئة. المحاصصة ليست سوى شكل بئيس من أشكال الصراع على السطة. هي تجسيد شاخص لمقولة المهاتما غاندي؛ كثيرون حول السلطة قليلون حول الوطن. الإعتراف الإيجابي بالقصور تجاه تنوع الثقافات والأعراق والمظالم المتراكمة على كاهل قبائل أو جهات مناطقية تتم معالجته تحت مظلة العمل المشترك تحت مظلة الوطن. الأكثر جدوى من تقاسم السلطة المساهمة في صوغ السياسات. طالما ارتكزنا على الكفاءة معياراً لشغل مناصب المرحلة، فلا بأس إذا غلبت  وجوه مقتدرة من إثنية أو جهة على غيرها.

البناء الوطني يقتضي بالضرورة منح ملف السلم الوطني أولويته المستحقة. إنجاز هذا الهدف الإستراتيجي ينبغي الإرتقاء به هو الآخر فوق شبهات المحاصصة إلى إشباع نهم الجماهير في حياة قاعدتها الحقوق الأساسية وسقفها الرفاهية. سر التغيير لا يكمن في تكريس الطاقات للقتال ضد الماضي كما قال أرسطو بل من أجل البناء الجديد.

مكافحة الفساد بما في ذلك محاسبة الوالغين في المال العام وتحرير مؤسسات الشعب من قبضة الطبقة الطفيلية المخلّقة في زمن الإنقاذ واسترداد المال المنهوب تأتي في صدارة أجندة المرحلة الإنتقالية. 

كل قوى الثورة لا بديل أمامها غير بناء ظهير راسخ للسلطة المرتقبة، كما تشييد مصد عتيد في وجه كل مغامرة محتملة تستهدف عرقلة تقدم السلطة على طريق الثورة. لا خوف على سلطة تملك رأسمالا بشريا باذخا متوقدا بالوعي والبذل كما هو حال ثورتنا. من حق السلطة المرتقبة علينا منحها هامشاً للخطأ. من حقنا عليها الإستجابة لتقويمنا لها، كيفما نرى إذا هي تجاوزت هامش الخطأ إلى الإنحراف.
---------------------
بقلم: عمـر العمـر

مقالات اخرى للكاتب

حرب الفجار النتنة





اعلان