18 - 04 - 2024

ممنوع دخول العنب

ممنوع دخول العنب

اكتب مع قليل سخرية وفي القلب وجع، أما العقل فقد ضاق باللامعقول، وما جرى أنني حملت بعض ماء في يوم حار قائظ وكثيرا من الصبر في زمن قاس صعب، واخذت "مترو القاهرة" إلى محطة طرة (البلد وليس الإسمنت)، ومكثت لساعات من الصباح إلى قرب العصر أمام بوابات سجون طرة اتأمل أحوال المصريين من خلق الله في أرضه المحروسة. 

أهالي المحبوسين احتياطيا والمساجين بعضهم جاء من مسافات بعيدة ومن خارج القاهرة، وبينهم شيوخ وأطفال وبالطبع نساء، وحسنا فعلت المؤسسة السجنية التابعة لوزارة الداخلية ـ لا وزارة العدل ولا وزارة السعادة المنتظرة أو الرحمة المرتجاة ـ فخصصت استراحة أمام اسوار السجن لانتظار الزائرين، ولعله من نعم المولى عز وجل على عباده أن لا تبعد هذه الاستراحة عن محطة المترو إلا بضعة أمتار. 

لكنها ويا لهول طول الانتظار وحرارة الصيف استراحة بلا راحة، يبدأ التسجيل للزيارة من السابعة حتى العاشرة صباحا في طوابير، ويجرى فتح الأبواب للزيارة اعتبارا من الثانية عشر ظهرا، تبدأ بأهالي  "الجنائيين" وعلى زوار "السياسيين" المزيد من الانتظار حتى يستمعون الى النداء، لا شجرة ولا نبته خضراء في ساحة الانتظار المكشوفة تحت عين الشمس إلا من جزء فوقه مظلة من معدن (ليست من خشب)،"صاج" يرتفع على قوائم من حديد، ونار نار. 

وبين حر المكشوف و هجير المغطى تعيش و تتابع حركة قلقة لا تهدأ، وخاصة من كبار السن والمصابين بضغط الدم، لكن لا فائدة لمن يستجير من الرمضاء بالنار. وشيئا وشيئا مع طول الانتظار تلاحظ خفوت أصوات الأطفال وانحسار قدرتهم على اللعب والجري في المكان. هو الانهاك وأثر الانتظار في جحيم الحر حتى على  الصغار، لكنك ستفكر أيضا في حال المحبوسين احتياطيا والمساجين  في هذا الجحيم الإلهي وغير الإلهي معا داخل زنازين لا أمل في أن يغادروها، وستفكر أكثر في بشر ـ وبينهم أصدقاء وأحباء وزملاء مهنة الصحافة ـ وقد اشتكوا من حرمانهم الخروج تماما من زنازينهم الضيقة القذرة المكتظة والجحيمية لأسابيع، وبعضهم لشهور. 

ولأن الإنسان ـ حتى ولو كان مصريا ـ مطلق الخيال على الرغم من الظروف والقيود، فقد سرح الخاطر إلى جنة "التكييفات" في قصور السادة المسئولين وفوق  كيلومترات من الأبسطة الحمراء الممتدة بحفاوة وبذخ، ومن أموال الشعب الذي تزايد على نحو غير مسبوق أعداد المحابيس من ابنائه، وحتى اكتظاظ زنازين السجون المعهودة، بل و استلزم الأمر افتتاح سجون جديدة مترامية المساحات أشبه بمدن الصحراء، تمر بها سيارات السفر على  الطرق السريعة فتمل من طول أسوراها.

في 15 مارس 2016 نشرت صحيفة " الأهرام "للعبد لله مقالا بعنوان :"لائحة السجون و(أنسنة) الحبس"، وحينها سعيت الى لفت النظر إلى توجه قوى في العالم ـ بما في ذلك دول المغرب العربي ـ إلى عقوبات بديلة عن الحبس في جرائم لا تستدعى مدد حبس طويلة، وقلت أن "التفكير في حقوق المحبوسين احتياطيا والمحكومين بعقوبات سالبة للحرية ليس ببدعة يأتي بها القرن الحادي والعشرين أو حتى العشرين، فهذا التوجه متأصل في الفكر الاجتماعي منذ قرون، وبما في ذلك رفض نظريات الإجرام التي تعتقد بالعوامل الوراثية للانحراف وبحتمية السلوك الإجرامي، وكأن الانسان مذنب حتى تثبت براءته". 

وأجدني الآن وبعدما استمعت أخيرا الى عديد الخارجين من  السجون والمحابس من الأصدقاء والزملاء أخشي القول بأن المعارض أو المستقل عن السلطة، بل والمواطن في مصر اليوم، أصبح مذنبا وملاحقا ومعاقبا ومنكلا به حتى تثبت براءته، هذا لو تمكن من أن يعلم ماهي تهمته بالضبط؟، و لو تكرمت سلطة ما في هذا البلد بأن تواجهه عبر أشهر وسنوات الحبس الاحتياطي، وتجديد بعد تجديد بما يفيد منطقية التهم وتوافر قرائن على ارتكابها، كما نشرت في مقال ربيع 2016 هذا باستفاضة عن معاناة عشرات الزملاء الصحفيين المحبوسين في السجون وذويهم من ظروف لا إنسانية في المحابس ومنع الزيارات والعلاج،  واستشهدت ببيانات ومخاطبات معلنة لمجلس النقابة حين كان يجرؤ على المجاهرة بالشكوى والكلام، وتساءلت مندهشا :"هذا حال الصحفيين فما بالنا بغيرهم"، وضربت مثلا بما تعانيه "بنات دمياط" اللاتي كان عدد منهن في قبضة السجن القاسية. 

وحينها بحثت عن لائحة السجون وتعديلها الأخير في عام 2014، واهتديت إلى أنها تمنح مثلا ساعة كاملة للزيارة وليس دقائق معدودة، كما شكا الكثيرون وقتها، ومثلما شهدت وعاينت بنفسي أمام بوابات طرة هذا الصيف.

وتبين لي خلال حوارات تلت مقال 2016 مع عديد من الأصدقاء والزملاء ممن مروا بتجارب الحبس الاحتياطي المديد وخرجوا سالمين أو "بتدابير احترازية" أن السجون كغيرها من مناحي الحياة في بلدنا تخبئ خلف الأسوار والقوانين واللوائح الصارمة عوالم متنوعة من انعدام المساواة و فوضى المعاملات والأحوال، "وكله على قد فلوسه واستطاعته المالية". وهو ما يجعل المرء يذوب تعاطفا مع فقراء المساجين والمحبوسين احتياطيا. والله وحده يعلم كيف يتدبرون تكاليف وأعباء زيارة السجن و"قفة السجين".

لكن ما يوجع القلب ويذهب بالعقل أكثر أن تكون شاهدا أمام بوابات طرة على رفض إدخال أطعمة زيارة دون منطق يمكن فهمه. فهذه الأسرة ودت لو تكرم ابنها المحبوس بنوعين من الفاكهة فخيرها السجانون بينهما. وتلك اشترت من أمام استراحة الزائرين كيلو واحد من العنب فعادت كسيرة الخاطر به بعدما قال السجانون بحسم وجدية: "ممنوع دخول العنب". وحقيقة لم اصدق عندما استفهمت ما قيل عن أن العنب قابل للتعتيق والتخمير، وبالطبع فإن أحدا لا يود أن يخرج المحابيس "مبسوطين" أكثر مما "انبسطوا" وسعدوا بإقامتهم الهانئة!. لكن ماذا عن لامنطق منع الخوخ بدعوى أنه يحتوى على "بذور"!

ولقد بحثت عن كتاب يوضح ببساطة حقوق السجناء في بلدنا المحروسة، فعثرت في شبكة الإنترنت على "دليل المسجون: سؤال وجواب حول القواعد المنظمة للسجون في مصر، للأستاذة المحامية " ندى أحمد " والصادر عام 2016 عن (المجموعة المتحدة / للمحامين) ،جزاها الله خيرا عن هذا العمل المهم المبسط، وجنبها وجنبنا جميعا قسوة المحابس.  

وفي الكتاب الذي يستند تماما إلى القانون واللائحة وتعديلاتهما ما يفيد بإهدار العديد من حقوق السجناء والمحبوسين وفق ما اصبحنا نعرفه، بواسطة اصدقائنا وزملائنا وذوينا الخارجين من السجون أو من الأهالي أو ما عاينته وشهدت عليه أمام بوابات طرة، و ثمة تفاصيل يعجب لها من لم يقرأ من قبل. فالقوائم المنصوص عليها لائحيا بشأن وجبات طعام المساجين تتضمن نصيبا من "البط". ولعل السؤال عن حقيقة تنفيذ هذه الخدمة الممتازة في سجوننا المصرية ترف ما بعده ترف. وهذا في ظل الشكاوى من انتهاك حقوق "التريض" في الشمس والهواء و النوم على غير أرض الزنزانة أو العلاج أو حتى دخول الدواء، فضلا عن غياب الماء النظيف.

لكني فكرت هذه المرة على نحو مختلف ولأمر هام علمته أمام بوابات طرة، فقد يكون واضعو لائحة السجون أبعد نظر منا حين فكروا في أن جهة أجنبية مانحة ما قد تقوم بالترجمة الى إحدى اللغات الحية، أما الأمر الهام هذا فهو أن صديقة وزميلة صحفية عزيزة كانت قد جلبت معها خلال زيارة ابنها المحبوس احتياطيا على ذمة قضية "الأمل" رسالة بخط يد طفله الصغير مكتوبة باللغة الانجليزية، فصادرها السجانون دون أن تبلغ يد الأب، وعلى الأرجح سيتم تشكيل لجنة عليا للفحص والترجمة لتضع تقريرا وافيا عما خطه الطفل ذو التسع سنوات مخاطبا أبيه.

ولكن هكذا يشقى في سجونك يا مصر أولاد مدارس الحكومة والمدارس الأجنبية، وهذا مع أن القاعدة تفيد بأن "الفلوس تتكلم في السجون أيضا"، وعلى أي حال، فإن أثر حرارة الشمس دفعني إلى التسليم بوجاهة استبعاد دخول العنب والتفكير في امكانية ادخال نص قانون ولائحة السجون خلال زيارة لمحبوس أو سجين. لكني اعتقد ـ والله أعلم ـ بأن فرص العنب أصبحت أكبر.
--------------------
بقلم: كارم يحيى
من المشهد الأسبوعي .. غدا مع الباعة 

مقالات اخرى للكاتب

29 أكتوبر 56: العدوان الثلاثي ومذبحة عمال





اعلان