24 - 04 - 2024

آداب السلوك في مخاطبة الملوك

آداب السلوك في مخاطبة الملوك

لأسباب ليس هذا مجال ذكرها، وجدت نفسي أعود خلال الأيام السابقة لقراءة كتاب سبق لي أن قرأته منذ سنوات، كتبه كريم ثابت المستشار الصحفي لملك مصر السابق والأخير الملك فاروق تحت عنوان "عشر سنوات مع فاروق"، وهو يعطي فكرة عامة عن أجواء العمل في البلاط الملكي خلال الفترة من 1942 إلي قيام الثورة عام 1952، وبطبيعة الحال لا تشتمل علي كل الأحداث التي شهدتها تلك السنوات الساخنة سواء في القصر الملكي أو في مصر، ولكنها تعطي إنطباعاً عاماً عن حالة التعفن التي كانت الحياة السياسية في مصر قد انحطت إليها، و"بورتريه" عن قرب لآخر ملوك أسرة محمد علي .

وتمتلئ صفحات الكتاب بصور مخجلة لحياة القصر وساكنيه، وكذلك لشخصيات سياسية عديدة تمارس النفاق والكذب كي تحتفظ بقربها من وهج السلطة، وتفصيلات عن غراميات الملكة نازلي أم الملك في مخادع القصر مع عشيقها أحمد حسنين، وانحرافات الملك الشاب الذي وجد اليوم من يحاول أن يغسل سمعته وسيرته، لولا وجود مثل هذه الشهادات من رجال عاشوا داخل القصر، وشهدوا مخازي حكم مصر عن قرب.

يشرح كريم ثابت ما أسماه "الدستور غير المكتوب" بين الحكومة والقصر، والذي كان له من الناحية العملية قوة أكبر من قوة القانون ومن قوة الدستور"، ويتلخص في أن الحكومة لا تعمل عملاً واحداً قبل أن تخاطب القصر في موضوعه وتستطلع رأي الملك في شأنه، ويعدد الكتاب أمثلة علي تلك الأعمال التي يتضح أنه تشتمل علي كل جليل وتافه من أعمال الحكومة، حتي مواعيد تغيير ملابس رجال الجيش والبوليس صيفاً وشتاء.

ويقول كريم ثابت: "لما عينت مستشاراً صحفياً في مايو 1946 استرعي إنتباهي في المذكرات التي كان الديوان الملكي يرفعها إلي الملك أمران:

الأول: خلو أغلبها من كل رأي شخصي، أو إقتراح، أو حل، يستطيع الملك أن يستنير به في قراره أو في تعليماته.. وذلك "تجنباً للمسئولية وفراراً منها وخوفاً من ألا يصادف الرأي قبولاً حسناً عند الملك.. فقد كانوا يحرصون علي ألا يتقدموا إليه بفكرة ما، إلا إذا اعتقدوا أنه سيرتاح إليها أو استشعروا أنه سيرحب بها".

أما الأمر الثاني: فهو أن معظم هذه المذكرات كان يعود من عند الملك وعليها "تأشيراته" بخط "الشمرشجية" لا بخطه هو.. وليس تحت هذه "التأشيرات" أو إلي جانبها، إمضاء يدل علي أن الملك قرأ "التأشيرة".. أو راجعها!.. (المعروف أن كل وظيفة الشمرشجية كانت هي العناية بملابس الملك!)..

ويتضح مما سبق أن مصر في النهاية كان يحكمها مجموعة من الشمرشجية، هم الذين يقرأون المذكرات التي يرفعها الوزراء (والخالية من شجاعة إبداء الرأي)، ثم يضعون تأشيراتهم عليها.. وهل يحتاج ذلك إلي أي تعليق؟!..

وهناك واقعة جديرة بالتأمل يرويها كريم ثابت عن دور الصحفي مصطفي أمين، فيقول: "مساء الأربعاء 16 يوليو 1952، أتصل بي الأستاذ مصطفي أمين بالتليفون، وقال إنه يروم مقابلتي لأمر خطير، فرجوت منه أن يحضر إلي فوراً.. ولما دخل علي أخبرني أن الحالة في الجيش مضطربة.. وأطلعني مصطفي أمين علي منشور من المنشورات السرية التي يصدرها الضباط الأحرار من وقت إلي آخر، فكان أول منشور من نوعه اطلعت عليه.. واتفقت مع مصطفي أمين علي ألا يصحبني عند ذهابي إلي وزارة الداخلية في تلك الساعة من الليل، منعاً للقيل والقال، بل يوافينا في أثناء اجتماعنا، كأنه جاء صدفة لمقابلة وزير الداخلية لعمل صحفي.. إلخ إلخ، وهذه الواقعة تبين بجلاء دور "المخبر الصحفي" أو "المخبر فقط".. وأيضاً بدون تعليق!..

والكتاب يمتليء بحواديت عن شخصيات كبيرة لعبت أدواراً خطيرة في حياة مصر، وهي حواديت لا تبتعد كثيراً عن "حواديت البلاط" في أي قصر من القصور، وهي في مجملها يصعب تلخيصها، فهي خليط مخجل ومنفر، تعطي صورة مزرية لسياسيين أو أدعياء سياسة يلهثون وراء كراسي الحكم بأي وسيلة وبأي ثمن بما في ذلك الشرف، ورغم أن الكتاب لا يشتمل علي كل الأحداث التي شهدتها مصر خلال تلك الفترة، إلا أنه كان كافياً لإسكات كل أولئك الذين يتغنون بما يسمي "الحياة الديمقراطية قبل الثورة"، فلم تكن تلك الحياة - كما يصورها الكتاب - سوي العار متجسداً، فالجميع - بلا إستثناء - يقدمون فروض الذل والهوان لدي السفارة البريطانية والقصر، والجميع بلا إستثناء يتاجرون بقضايا الوطن المصيرية لتحقيق مصالحهم الذاتية الأنانية الضيقة، والجميع بلا إستثناء يدغدغون غدة الاستعلاء والغرور لدي الحاكم الفاسد، وطبقاً لما جاء في الكتاب، فلم يكن فاروق عندما تولي الحكم شاباً علي ذلك القدر من الفساد، ولكن تسبب في فساده كل من أحاط به من مستشارين ووزراء، فقد زينوا له أنه "لا ينطق عن الهوي، إنما هو وحي يوحي"، ورشحوه خليفة للمسلمين، بل وذهب البعض إلي نسبته لبيت الرسول الكريم.

لا شك أن لهذا الكتاب ما لمثله من كتب المذكرات والسير الذاتية من عيوب الإنحياز إلي الذات، وضيق زاوية النظر، ولكنه يبقي وثيقة هامة من شاهد عاش ومارس الحكم إلي جوار آخر ملوك مصر، وتبقي فائدته عبرة ومثلاً لأهل الحكم والسلطة في كل زمان ومكان، فمهما عاش الإنسان فإنه يموت، ولن تبقي منه سوي سيرته، فقد عاش فاروق ملكاً لمدة خمسة عشر عاماً، ولكنه حتي الآن لا يزال هدفاً لسهام النقد التي تمزق سيرته، وقد انقلب عليه كل من نافقوه في حياته، كل من انحنوا أمامه وأبدوا الخضوع والإمتثال، كانوا أكثر من ركلوا سيرته وتبرأوا منه ومنها.
--------------------
بقلم السفير/ معصوم مرزوق *
*مساعد وزير الخارجية الأسبق

من العدد الأسبوعي للمشهد .. غدا مع الباعة



مقالات اخرى للكاتب

علي هامش السد!





اعلان