20 - 04 - 2024

التراخيص التائهة.. بين التيار التقليدي والمجتمعات العلاجية للمدمنين

التراخيص التائهة.. بين التيار التقليدي والمجتمعات العلاجية للمدمنين

عفواً، لا أستطيع الفرار، لا يمكنني العودة الي البراءة الأولى، تعلق جسدي فوق المنحدر، وانزلقت قدماي ولا مغيث، في هوة عميقة سقطت أيامي الأولى، وفي بئر التردي عشت منبوذاً، تلاحقني عيون الشك، ويعتصرني غياب الإرادة، وحينما وجدت الملاذ، جردوني من سلاحي لمقاومة الواقع الموجع، جردوني من لذتي وضياعي، وانتزعوا معهما انسانيتي، هذا هو لسان حال المدمن الذي يذهب الي بعض المستشفيات الحكومية، وبعض المؤسسات العلاجية للتعافي من الإدمان.

فضائح نشرتها الصحف مراراً عن حفلات التعذيب التى تقام لاستقبال المدمن، او محاولة السيطرة عليه أثناء ظهور أعراض انسحاب المخدر من جسده، وهي المرحلة التى تسمى بـ " الديتوكس" وهي علاجية بحتة، يتم فيها استخدام العقاقير البديلة للمخدر بنسب متدرجة لسحبه، وهذه المرحلة يجب أن يشرف عليها أطباء متخصصون، لكنها غير كافية ولا ضامنة لعدم عودة المدمن للمخدر مرة أخرى، لذلك ظهر في مصر ما يسمى بـ"المجتمع العلاجي" حسب المفهوم الذي تعتمده مؤسسة الحرية، لإعادة تأهيل المدمنين، وطبقاً لتعريف د. إيهاب الخراط إستشاري الطب النفسي وعلاج الأدمان، فإنها مجموعة من الناس تعيش معا، أو تلتقي بانتظام لمدة محددة، ويلعب فيها المجتمع نفسه دور المعالج، على غرار ما يجري مع الأحداث،أو الناجين من الصدمات،أو المتعافين من أمراض نفسية مختلفة.

قاوم التيار التقليدي لعلاج المدمنين، شكل المجتمع العلاجي، وانكر قيمته، لكن التجربة اثبتت عكس ذلك، إذ انتشرت المجتمعات العلاجية، خارج مصر بفضل نسب النجاح التى تحققت،وبفضل الفارق الجوهري بين نسبة نجاح العلاج بـ"الديتوكس"، وهى لا تتعدى 2% طبقاً لدراسة تدعى ”DARP”- دراسة البرنامج البحثى لتعاطى المخدرات- التى أجريت على نحو أربعة وأربعين ألف مدمن ارتادوا مراكز الخدمات المدعومة من الدولة بين عامى 1969 و1971، وجرت متابعتهم مدة سنتين واستمرت المتابعة لدى بعضهم مدة 12 سنة، وانقسم المدمنون إلى من تلقوا علاجاً طبياً فقط ثم من انضموا إلى برنامج للميثادون (بديل دوائى للهيروين) والذين انضموا لمراكز التأهيل الاجتماعى (بيوت التعافى) وأخيراً من انضموا للمتابعة من خلال العيادات الخارجية التى لا تستخدم أدوية، فأظهرت نتائج المتابعة أن من سجلوا أسماءهم فى العلاج ولم يتلقوا علاجاً إطلاقاً حقق 2% منهم امتناعاً مستقراً عن تعاطى المخدرات (أكثر من سنتين) والذين تلقوا علاجاً لأعراض الانسحاب حقق 2% أيضاً امتناعاً مستقراً عن التعاطى، أى إن العلاج الطبى " زى قلته" طبقاً لتعبير الدكتور خالد منتصر الذي يدعم وجود مجتمعات علاجية مرخصة فى مصر.

بينما أظهرت ذات الدراسة ان 61% من عتاة الإدمان امتنعوا عن الهيروين وواصلوا امتناعهم لمدة 12 سنة - وقت اجراء الدراسة-  بفضل المرحلة اللاحقة لـ"لديتوكس"، وهى "الهاف واى" التي يقاومها البعض فى مصر، و" الهاف واى" مرحلة علاجية بالإقامة الطويلة فى مجتمع علاجى كما ذكرنا سابقاً، لتاهيله للعودة الي مجتمعه، بل وتمنحه الحق فى مساعدة مدمنين آخرين ليصلوا الي مرحلة التعافي، لأنه أكثر ادراكاً لمشاعرهم.

رغم نجاح "الهاف واى"، بفضل د/ إيهاب الخراط منذ عام 1989، الذي كان أول من أدخل هذا المفهوم الي مصر، إلا أن المقاومة متمثلة في وزارة الصحة، يدعمها التيار التقليدي، وترسانة الشروط التى تحكم اصدار التراخيص، تسببت في امور لاحقة كارثية، فالبعض  اتخذ من ذلك ذريعة لفتح عدد من المراكز غير المرخصة، التى لا تتوافق مع طبيعة وسمو مفهوم المجتمعات العلاجية، بل تفسده، وتشوه كل من يعمل به.

وتحركت الحكومة المصرية فاجرت دراسة كبرى ونشرتها فيعام 2016، كانت الدراسة على عينة من 106480 مواطن مصري، وأظهرت أن 19 % من تعداد سكان مصر ممن تجاوزوا سن 15 سنة يستخدمون المخدرات من حين لآخر، وأن 6.4% مدمنين، أي نحو 3.5 مليون مدمن، أولئك المدمنون الذين هم فى الحقيقة طاقة معطلة عن العمل، وطاقة سلبية لأسرهم وعائلاتهم، والأرقام ترجمتها مرعبة ومخيفة، فى حقيبة الاقتصاد المصري، لا يوجد لايوائهم سوى 7 الاف سرير فقط، فى مرحلة أعراض الانسحاب، وللأسف بدلاً من منح المراكز الخاصة تراخيص لتقوم بعملها فى اطار من المشروعية، يضمن تراجع مراكز "بير السلم"، وضعت وزارة الصحة اشتراطات تعجيزية، للترخيص لا يقدر عليها أطباء ولا غير أطباء بل انها تُقصر العلاج على أبناء الاغنياء فقط، وليذهب المدمنون من أبناء الفقراء الي الجحيم، والي الشوارع يعيثون فيها فساداً.

وبالرغم من ان القرار الوزاري لوزارة التضامن الاجتماعي رقم 59 لسنة 1985 يشمل بيوت الضيافة، مراكز تدريب، مراكز تنمية بشرية، إلا أن تطبيق وزارة الصحة لشروط مراكز التأهيل النفسي اشترط وجود فريق تفتيش الأمتعة، والتفتيش الذاتي، فريق  مدرب ومعلن،كما اشترطت التعاقد مع التخصصات المختلفة من الأطباء، بما يتناسب مع عدد  المرضى والبرنامج العلاج التأهيلي، ووجود 2 طبيب مقيم، وممرض لكل خمسة مرضى! وهو أمر غاية فى التعجيز، ويرفع تكلفة العلاج للضعف على الأقل.

 واللافت أننا بنظرة موضوعية للمستشفيات العادية، التي تستوجب إقامة الأطباء لا نجد - بالحسبة الرياضية - هذا العدد، ولا حتى فى مستشفيات الحكومة، ولا تلك الاشتراطات، فلماذا تطالب به وزارة الصحة لترخيص مراكز تأهيل المتعافي؟! الذين لا يحتاجون سوى لطبيب واحد مقيم، وممرض لكل 3 سرير على الأكثر، طبقاً لبيوت الخبرة فى هذا المجال، لأن الأصل فى التعافى هنا نفسي وليس بدنيا، فالمفترض ان التعافى البدني يتم فى المرحلة الأولى التى يخضع فيه المتعاطي للعلاج فى المستشفيات، وليس فى مجتمعات التأهيل.

وطالت الأيام وكثرت مراكز التأهيل فى ظل انعدام التراخيص، واصبح للمجتمعات العلاجية سوق ومنافسة، وتعددت الأوجه السلبية، وما زالت وزارة الصحة فى تعنتها غير المبرر، تعتمد الوقوف عند نقطة العلاج التقليدي، عبر تعطيل شرعنة المجتمعات العلاجية فهل يخرج علينا مسؤول يمنح الملف بأكمله لوزارة التضامن الأجتماعي التى هى أولى من الصحة بهذا الملف؟
-----------------
بقلم: حنان فكري
[email protected]
----------------------
من المشهد الأسبوعي .. اليوم لدى الباعة

مقالات اخرى للكاتب

عفواً.. القانون لا يمنح العطايا الإلهية





اعلان