29 - 03 - 2024

كفانا الله قسوة المراقبة والتدابير الاحترازية

كفانا الله قسوة المراقبة والتدابير الاحترازية

غريب أمر السادة حكام مصر ومسكين شعبها، كانت خلال الحرب العالمية الثانية في صف الحلفاء جراء الاحتلال البريطاني، لكنهم اختاروا عندما وضعوا قانونا متكاملا للعقوبات بحلول عام 1937 أن يستعيروا فلسفته وأسسه من فقيه قوانين الفاشية الإيطالية "ألفريدو روكو". وهذا ما استنتجته من استشارة عدد من رجال القانون والقضاء مستفهما ومستغربا من قسوة ما يعانيه الخاضعون لأحكام تعددت وتكاثرت بالمراقبة والتدابير الاحترازية، ووفق ما فهمت فإن الأولى عقوبة تكميلية، والثانية إجراء لتعويض او استكمال الحبس الاحتياطي الذي امتد في عهد الرئيس المؤقت عدلي منصور إلى عامين كاملين، وإن كان في الممارسة وضد الخصوم السياسيين يمتد إلى ما هو أبعد .

في الأيام الأولى من شهر رمضان الكريم أفطرت تضامنا ولمرة واحدة أمام أحد أقسام الشرطة مع أسرة كريمة تعاني من حبس نجلها نصف يوم ( 12 ساعة ) وكل يوم ولخمس سنوات. حبيس النصف يوم بالأصل من الشباب الطامح لمصر أفضل كي تلحق بعالم وعصر بلا حدود، دفع من قبل خمسسنوات في السجون أو يزيد ثمنا لحريتنا وحريته. 

ولقد قدر لي قبل حلول موعد الإفطار بدقائق أن أشعر بقسوة الانتزاع.. انتزاع مواطن محكوم بالمراقبة من حياته اليومية ومن دفء الأسرة ليبتلعه ظلام حبس المراقبة لنصف يوم وحتى السادسة صباح اليوم التالي. ناهيك عن استحالة حياة طبيعية على هذا النحو بما في ذلك ممارسة الحق الدستوري في العمل والكسب. وتصادف بعدها بساعات أن ذهبت إلى عزاء، فصادفت شابا آخر من الحالمين بمصر أفضل ـ وكل على طريقته ـ يسرع بالمغادرة كي يلحق بموعد تسليم النفس الى حبس المراقبة اعتبارا من التاسعة ليلا في رمضان. وهكذا بما يفيد بأنه حتى ومع الحبس نصف اليوم، كل يوم، ثمة درجات متنوعة من القسوة أو قل المرونة من قسم شرطة لآخر. ولربما كان الأمر معلقا سلطة الأمن الوطني (أمن الدولة). 

لكن الأمر وبالنسبة لي شخصيا لم يعد يقتصر على أسرة واحدة من الأصدقاء أو حبيس نصف يوم  لواحد أو اثنين اعرفهما حق المعرفة. فكم من المرات أرغب في مقابلة صديق أو زميل مهنة أو شخص معرفة أو مصدر لعمل، فيعتذر بأن الموعد لا يناسبه لأنه يتعارض مع ساعات المراقبة أو التدابير. وحقيقة يعجز المرء عن إحصاء عدد الزملاء الصحفيين والمعارف في دوائر العلاقات والانتماءات الاجتماعية، ممن هم الآن يدورون في دوائر ودوامات المراقبة أو التدابير الاحترازية، وأنا على يقين بأن أيا منهم لا يشكل خطورة على المجتمع أو "الهيئة الاجتماعية" أو "النظام الاجتماعي" أو " النظام العام " تستوجب كل هذه القسوة والمعاناة. ناهيك عن شغل أقسام الشرطة المكتظة أصلا بهم، ولذا بحثت كما سألت كل من صادفني من رجال القانون والقضاة والعائلات المضارة بالمراقبة والتدابير الاحترازية عن الأساس القانوني لعقوبة واحتياطات سنها مشرعون لتحمل إلى المصريين كل هذه القسوة.. بل والانتقام.

وفي رحلة البحث هذه وصلني نص مرسوم بقانون صدر في 6 أكتوبر 1945 برقم 99  يحمل عنوان:"تنظيم الوضع تحت مراقبة البوليس"، ويبدو أنه صادر في غيبه البرلمان ومن إحدى حكومات الأقلية صنيعة القصر والاحتلال. وواضح أنه في عهد حكومة "النقراشي". كما يتضح أيضا أنه يستند الى مواد في قانون العقوبات ( الركوكي )، كما يحل محل قانون آخر يعود الى عام 1923 يتعلق بـ " المشردين " و" المشتبه فيهم ". والحقيقة انه رغم ما في هذا القانون من غرائب وعجائب فقد بدا لي بأنه أكثر رأفة إزاء السادة المشردين والخطرين من "الهجامين" و"الطفاشين" للبيوت والمتاجر حين يسمح للمعاقب بأن يحدد للبوليس  المكان أو الجهة أو العنوان محل المراقبة كي يمر عليه الشرطي كل ليلة للتأكد بأنه يلزمها، وأن يقدم نفسه لمكتب البوليس مرة في الأسبوع على الأكثر وعلى ان يلزم منزله محل المراقبة من غروب الشمس إلى شروقها في اليوم التالي. كما يتضمن هذا القانون قدرا نسبيا من الرحمة حين يسمح للمحافظ أن يعفي المعاقب بالرقابة من لزوم كل ساعات الليل أو كله، إذا اقتضى عمله أو شأن آخر. ناهيك عن إعفائه لمدة تصل الى أسبوعين من المراقبة بمقتضي قرار من مأمور القسم على أن يخطر المحافظ أو مدير المديرية اللذين لهما حق الاعتراض. 

 وربما تقودك رحلة البحث هذه الى مواد في قانون العقوبات وبخاصة المواد 28 و29 و 38 كما ورد في عدد من وسائل الإعلام في العامين الماضيين. أو يشير عليك قاض جليل بأن هناك لائحة تنفيذية لقانون المراقبة لعام 1945 تتجدد وتتغير وفق ما يمليه جهاز الشرطة بين حين وآخر. وينظر اليك مليا وهو يقول :"لكن يبدو أن تلك اللائحة ومنذ السبعينيات لم يجر نشرها في الجريدة الرسمية (الوقائع المصرية)". 

أما بخصوص التدابير الاحترازية فهي تتطلب ـ كما تفيد أحوال العديد من الاصدقاء والصحفيين الزملاء ـ أن يسلم المواطن نفسه الى قسم الشرطة التابع له لنحو ساعتين أو ثلاث ساعات يومين أو يوما واحدا كل أسبوع، وهو على ذمة قضية متداولة، وبعد اخلاء سبيل من الحبس الاحتياطي. وهنا ايضا تتعدد اجتهادات و"تأصيلات" من التقيتهم من المشمولين بالتدابير الاحترازية في قضايا رأي وأيضا من رجال القانون والقضاة. والعديد من بينهم يشير الى مواد في قانون الإجراءات الجنائية أو حتى الطوارئ. 

ولعل ما أجمع عليه من استفتيتهم هو أنه لم يحدث على مدي 60 عاما عاشوها ووعوا خلالها بتطورات القوانين وساحات القضاء أن امتدت هكذا عقوبة (المراقبة) وإجراء احتياطيا ( التدابير الاحترازية ) إلى الخصوم السياسيين واصحاب الرأي وكذا الصحفيون، ومن غير "المتشردين" و"الهجامين" و"الطفاشين" و"المجرمين الخطرين" وعلى هذا النحو، إلا في أيامنا هذه.

وكفانا الله وإياكم شرهما وقسوتهما.
----------------------
بقلم: كارم يحيى
من المشهد الأسبوعي - اليوم مع الباعة 

 

مقالات اخرى للكاتب

29 أكتوبر 56: العدوان الثلاثي ومذبحة عمال





اعلان