18 - 04 - 2024

قطرة الماء والمحيط

قطرة الماء والمحيط

قديماً قال الفيلسوف الإغريقى فيثاغورس، وكان صاحب مذهب دينى توحيدى، إن الإنسان عالم صغير، أما العالم فهو إنسان كبير! ... كان مقصده أن للعالم عقلاً يدبره ويديره، وأن داخل الإنسان مرآة تعكس حكمة هذا الكون، وتؤاخى بين القوانين التى تدير هذا وذاك ولا يراها إلا الفلاسفة أو ملازمو الحكمة ! ... كانت هذه الكلمات هى بداية للمقابلة الفلسفية بين الماكرو كوزموس (العالم) والمايكرو كوزموس (الإنسان)!

فى ثلاثينيات القرن العشرين الميلادى، قام إيريك آرثر بلير، وهو بريطانى خدم فى البوليس الإمبراطورى البريطانى فى جنوب شرق آسيا، وتحديداً فى بورما، بنشر كتاب عن تجربته الإنسانية أثناء خدمته الجهود الاستعمارية البريطانية هناك، عنوانه "الأيام البورمية"، حكى فيه عما أثقل ضميره الإنسانى حين كان يضطر لاصطحاب السكان الأصليين إلى منصة الإعدام لأنهم يقاومون قانون المستعمر، أو أحياناً لأنهم فقط مختلفون عن هذا المستعمر، ولا يقبلون الانصهار فى بوتقة الإمبراطورية البريطانية.. ولأن ما كتبه إيريك آرثر بلير فى هذه الفترة كان كفيلاً بأن يجلب عليه غضب الإمبراطورية فقد كان يكتب تحت اسم أدبى مستعار ظل يصاحبه طيلة حياته، وحتى بعد مماته، هو "جورج أورويل" ! ... نعم، هو نفسه جورج أورويل صاحب "مزرعة الحيوانات" و"1984" !

فى هذا الكتاب الناقد للأساليب الاستعمارية المتنافرة مع معاييره الأخلاقية، كتب جورج أورويل عبارة، استوحاها ولا شك من هذه الفلسفة الفيثاغورية التى تتناول الإنسان باعتباره "مايكروكوزموس"، يقول فيها إنه عندما كان يصطحب إلى منصة الإعدام محكوماً عليه بالموت، كان يرى عالماً بأكمله يموت معه ! ... كان أورويل قد وثق صلاته بالمجتمع البورمى، وكان يداوم على التفاعل مع السكان المحليين، ومع الكهنة البوذيين الذين كان يحادثهم بلغتهم، وبطلاقة شهد لها الجميع ... لم يكن أورويل يرى البورميين مجرد كائنات حية يمكنها أن تغادر عالمنا دون خصم يُذكَر من منظومة الحياة، بل كان يرى فى كل واحد منهم عالماً كاملاً ينهار مع كل حكم بإعدام واحد منهم !

تذكرت سيرة أورويل، وما كتبه بحساسيته الإنسانية، وتذكرت من قبلها أفكار فيثاغورس عن العالم الصغير، وأنا أقرأ كلمات منسوبة لإمام الصوفية، مولانا جلال الدين الرومى، يقول فيها مخاطباً الإنسان : "لست قطرة ماء فى محيط، بل أنت محيط بأكمله فى قطرة ماء واحدة" !

كلها - كما نرى - أفكار وكلمات تدور حول نفس المعنى، حتى وإن اختلفت سياقاتها اللغوية والتاريخية والثقافية والإنسانية وحتى الفلسفية، فقد كان فيثاغورس يؤسس بكلماته لسلطوية يفقد معها الإنسان ذاتيته لحساب ذاتية أخرى أكبر منه، بينما كان جلال الدين الرومى يؤسس بكلماته الصوفية لتحرر الإنسان من كل ما يقهر إرادته ويطمس وجوده !

إذن هى كلمات مولانا جلال الدين الرومى التى تعبر ببلاغة صوفية نادرة عن هذا المعنى العميق الذى لا يتحرر الإنسان قبل أن يتمثله، أعنى أنه ليس مجرد قطرة بلا وجود ذاتى فى محيط هو الذى بحركته الشمولية وحدها تكون حركة الوجود، وإنما هو محيط كامل يموج فى قطرة لها وجود يتفاعل مع وجود غيرها من قطرات المحيط، حتى وإن لم يكن وجود أى قطرة منها هو الوجود بألف لام التعريف .
--------------------------
بقلم: د. حازم حسني

مقالات اخرى للكاتب

أسئلة الطريق





اعلان