لم تكن عَتَبَاتٍ نَصِّـيَّةً فحسب، بل هي عتباتٌ حياتيةٌ أيضاً عن حياة الأديب أو الكاتب المعروف
- كان جرير إذا أراد أن يؤبد قصيدة صنعها ليلاً ويقول ابن رشيق: "وقت السَّحر وقت فيه إلهام، ومن أراد أن يحفظ فعليه بالليل"
- من نصائح بشر بن المعتمر: إياك والتوعر، فإنَّ التَّوعر يسلمك إلى التَّعقيد، والتَّعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك
- لم يتحمل الحاج فهمي صاحب مقهى الفيشاوي رؤية أولِ معولٍ يبدأ هدمَ الجدرانِ التي استند إليها، كان هدْمُه سبباً في موته
- سعود السنعوسي: كلَّ عملٍ له طقوسٌ كتابيةٌ خاصة "أكتبُ على ورقة، أو منديل ورقي، أو على كفِّ يدي.. "
-جورج برناردشو يصف عملية الإبداع بالألم، حيث يذكر أنَّ الدَّجاجةَ تصيح حين تبيضُ والشَّاعرَ يبدعُ متألماً
لكلِّ مبدعٍ طُقُوسُه الخَاصَّـةُ في الإبداعِ، أياً كانَ ذلك الإبداعُ منْ رسمٍ ونحتٍ وزخرفةٍ فضلاً عن طقوس الكتابةِ. والطُقُوسُ الكتابية هي الطريقةُ التي يتَّبِعُها الكاتِبُ في حياتِه حِينَ يَقُومُ بعملِيةِ الكتابة، ويزدادُ شَغَفُ الكتَّابِ المُبْتَدئين بمَعْرِفَةِ طُقُوسِ الكتَابة عن الكتَّابِ الكبَارِ، وما هي الطَرِيقَةُ المُثْلَى للكتابةِ لديهم؟ وما الأوقاتُ المحبب الكتابة فيها عندهم؟ بل وما الأماكنُ المحببةُ إليهم التي يجدون المتْعةَ في الكتابةِ فيها مثل المقاهي المشهورة وغيرها؟ أو أماكن الاستجمام على النيل أو في أي مكان آخر. والسُّؤال كيف تكونُ تلك الطقوسُ عَتَبَاتٍ نَصِّـيَّة؟ فحين يأتي كاتبُ مُبتدئ أو حتى قارئ عادي أو شخص محبٍّ للكاتبِ نفسه يسمع عن كاتبٍ مشهورٍ أو أديبٍ مرموقٍ نال جوائزَ مختلفةً عن أعماله الأدبية، فيحاول معرفة الطريقة التي كان يكتب بها وأي الأماكن يحبُّ أن يكتبَ فيها، فهل يفضل بيته ومكتبه؟ أم هناك أماكنَ يحبُّ الجلوس فيها، والذِّهابِ إليها كما كان يفعل نجيب محفوظ وأصدقاؤه من الحرافيش والجلوس في مقهى الفيشاوي القديم أم الحديث، أو مقهى ريش، وكل تلك الأمور تجعل هؤلاء جميعاً يبحثون في كتاباتهم وسيرهم الحياتية عما كانوا يفعلون، وتصبح سيرهم الذَّاتية ومؤلفاتهم طريقاً لمعرفة تلك الطقوس الحياتية لديهم، والخاصة بالكتابة، فيقرؤون أعمالهم بحثاً عن ذلك، بل ويسعون إلى معرفة أدقِّ التَّفاصيل عن تلك الكتابات نحو عدد ساعات الكتابة لديهم، والأوقات التي يكتبون فيها ليلاً أم نهاراً، وهي لم تكن عَتَبَاتٍ نَصِّـيَّةً فحسب، بل هي عتباتٌ حياتيةٌ أيضاً عن حياة الأديب أو الكاتب المعروف. ومن هنا نعرف أنَّ الطُقُوسَ الكتابيةَ هي الطريقةُ التي يتعايشُ معها المبدعُ ويجدُ فيها المُتْعَةَ حين يُمسِكُ بالقلمِ أو بريشته أو بالأداة التي يبدع بها في النحت وما شابه ذلك.
قديماً كانتْ هناك طقوسٌ للكتابةِ في قول الشَّعر والنَّـثر، وكانت تعتبر بمثابة العتبةَ التي يبدأ منها الكاتب الكتابة، وتظل ملازمةً للكاتبِ أو الشَّاعرِ طوال حياته. فعن طُقوسِ أبي نواس في قول الشِّعر، فقد قيل له: "كيف عملك حين تريد أن تصنع الشِّعر؟ قال أشربُ حتى إذا كنتُ أطيبَ ما أكونُ نفساًبين الصَّاحي والسَّكران صنعتُ وقد داخلني النَّشَاط وهزتني الأريحية" .وقد قال عبد الملك لأرطأة بن سمية: "هل تقول اليوم شعراً؟ قال كيف أقول وأنا لم أشربْ ولا أطربُ ولا أغضبُ. وإنما يكونُ الشِّعر بواحدةٍ من هذه" وللشِّعر أوقاتٌ. يبعد فيها قريبُه. ويستصعب فيها ريضه، وكذلك الكلامُ المنثور في الرَّسائل والمَقَامَاتِ والجوابات. ولا تعرف لذلك علة إلا من عارض يعرض على الغريزة من سوء غذاء أو من خاطر غم. وكان الفرزدق يقول أنا أشعرُ تميم عند تميم، وربَّمَا أتتْ عليَّ ساعةٌ ونزع ضرسٍ أهونُ من قولِ بيتٍ. وللشِّعرِ أوقاتٌ يسر فيه آتيه، ويسمح فيها أبيه منها أول الليلِ قبل تغشى الكرى. ومنها صدر النَّهار قبل الغذاء ومنها شُرْبُ الداءِ. منها الخلوة في المجلس وفي المسير وبهذه العلل تختلف أشعار الشُّعراءِ". وهذا الأمر يعتبر من طقوس الكتابة وليس أدل على ذلك من قول كُثير عزة عن كيفية صناعته للشِّعر" كيف تصنعُ إذا عسر عليك الشعر؟ قال: أطوف في الرِّباعِ المحيلة والرياض المعشبة فيسهل عليَّ أرصنه، ويسرع إليَّ أحسنه، وحين سُئل ذو الرمة، كيف تعمل إذا انقفل دونك الشِّعرُ؟ فقال: كيف ينقفل دوني وعندي مفتاحه؟ قيل له وعنه سألناك فما هو؟ قال: الخلوةُ بذكر الأحبابِ". أي أنَّ ذا الرُّمة يقرض الشِّعر حين يتذكر الصَّحب والأحباب، وهو نوعٌ من السلوك في قول الشعر، وعادة من عاداته، وأكد ذلك ديك الجن حين قال "ما أصفى شاعر مغترب قط" "وقالوا: كان جرير إذا أراد أن يؤبد قصيدة صنعها ليلاً: يشعل سراجه ويعتزل، وربما على السَّطح وحده، فاضطجع وغطى رأسه رغبة في الخلوة بنفسه، يحكي أنَّه صنعَ ذلك في قصيدته التي أخزى بها بني نمير، وروى أنَّ الفرزدقَ كان إذا صعبت عليه صنعة الشعر ركب ناقته، وطاف خالياً منفرداً وحده في شِعاب الجبالِوبطون الأودية والأماكن الخربة الخالية، فيعطيه الكلام قياده، حكى ذلك عن نفسه في قصيدته الفائية".
ويضيف لنا ابن رشيق في العمدة رؤيته حول طقوس الكتابة، وكيف أنَّ وقت السَّحر وقت فيه إلهام، ومن أراد أن يحفظ فعليه بالليل "مما يجمع الفكرة من طريق الفلسفة استلقاء الرجل على ظهره، وعلى كل حال فليس يفتح مقفل بحار الخواطر مثل مباكرة العمل بالأسحار عند الهبوب من النوم؛ لكون النفس مجتمعةً لم يتفرق حسُها في أسباب اللهو أو المعيشة أو غير ذلك مما يعييها، وإذ هي مستريحةٌ جديدةٌ كأنَّما أنشئت نشأة أخرى؛ ولأن السَّحر ألطفُ، وأرق نسيماً هواءً، وأعدل ميزاناً بين الليل والنَّهار، وإنِّما لم يكن العشي كالسَّحر وهو عديله في التُّوسُّط بين طرفي الليل والنَّهار لدخول الظلمة فيه على الضِّياء بضد دخول الضياء في السَّحر، إلى الظلمة، ولأنَّ النَّفسَ فيه كالةٌ مريضةٌ من تعب النَّهار وتصرفها فيه، ومحتاجةإلى قوتها من النَّوم، متشوقةنحوه؛ فالسَّحر أحسنُ لمن أراد أنْ يصنعَ، وأمَّا لمنْ أراد الحفظ والدِّراسة وما أشبه ذلك فالليل، قال الله تعالى وهو أصدق القائلين:" إنَّ ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلا". وقد قال بشر بن المعتمر ناصحاً الأدباء ببعض النصائح الغالية التي من شأنها أنْ تأخذ بأيديهم إلى الرُّقي في القول إذا جعلوها من طقوسهم الدَّائمة" ومما لا يسع تركه في هذا الموضعصحيفة كتبها بشر بن المعتمر، ذكر فيها البلاغة، ودلَّ على مظان الكلام والفصاحة، يقول فيها: خذ من نفسك ساعة فراغك، وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإنَّقلبك تلك السَّاعة أكرم جوهراً، وأشرف حساً، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكلِّ عينٍ وغرة من لفظ شريف ومعنى بديع، واعلم أنَّ ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد وبالتكلف والمعاندة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولاً قصداً،أو خفيفاً على اللسان سهلاً كما خرج من ينبوعه، ونجم من معدنه، وإياك والتوعر، فإنَّ التَّوعر يسلمك إلى التَّعقيد، والتَّعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك، ومن أراد معنى كريماً فليلتمسْ له لفظاً كريماً؛ فإنَّ حقَّ المَعْنَى الشَّريفِ اللفظُ الشَّريفُ".
المقهى القديم
وحديثاً إذا كانَ المَقهى عند الأدباء الكبار متنفساً للجلوسِ فيه والحديثِ مع الأصدقاء والكتابة أيضاً وطقساً مميزاً، فإنَّ المقهى عند جمال الغيطاني وغيره كان مكانَ عبورٍ واجتيازِ مراحلٍ, سواء عبر قطاره أو عبر خلساته أو رشحاته من خلال إبراز فكرة أو إدراج رؤية معينة " فالمقهى الذي يقع على محطة القطار يمثل بقعة انتظار للمسافرين، ويكون معبراً من القرية إلى المدينة والقرى المجاورة, و يعد موقفاً متقدماً يتصدر القرية فيعطي صورة واقعية لها". يقول الغيطاني" ورغم جلوسنا في مقهى قديم إلى جوار نافذة يبدو من خلالها طريق مرصوف بالحجر, إلا إنَّنَي لا أستدعيه إلا جالساً في قطار ما أجهل وجهته ". يربط بين المقهى هناك والمقهى عند نجيب محفوظ، أي أنَّه يحفظُ لأستاذه الطقوسَ التي كان يفعلها، فلم يفتأ الغيطاني يذكرنا بالماضي الذي عاشه مع أستاذه نجيب محفوظ بحكم أنَّ الأخيرَ قد سافر في المكان وسار من بعده تلميذه؛ حيث ذكر مقهى الفيشاوي القديم متحسراً عليه، كما تحسَّر عليه صاحبه، حيث كان هدْمُه سبباً في موته. المكان، نعم هو روح صاحبه "عندما تقرر إزالة مقهى الفيشاوي عام تسعة وستين وتسعمائه وألف، لم يتحمل صاحبه الحاج فهمي رؤية أولِ معولٍ يبدأ هدمَ الجدرانِ التي استند إليها, وأنَّها, الفراغاتُ المظللةُ بما تحمله من عبق نعناعي وعبير شاي وقهوة وجنزبيل وسحلب وأشربة مختلف ألوانها". وقد أرَّخ لهذا المكان بتحديد جغرافيته بحكم أنَّه قريبٌ من ميدانِ الحُسين عليه السَّلام في القاهرة يقول "وعلى مقربةٍ من مربط جواده الأشهب الذي كان لخروجه راكباً يوماً مشهوداً يكاد الناس بدءاً من ميدان الحسين وحتى باب النَّصر يرقصونَ على إيقاع خطواته".
والسؤال الذي يجول بخاطري هنا, ما الذي مثله مقهى الفيشاوي للغيطاني وغيره؟ بحكم أنَّه لا ينساه وظل عالقاً في ذهنه أينما رحل، ويمكن أن نقول إن مقهى الفيشاوي هو المكان الذي ربط بينه وبين نجيب محفوظ وبينه وبين الحرافيش أحياناً ومن ثم فهو الحنين للمصدر, وطقس من الطقوس الحياتية الكتابية وكذا في المجالس المحفوظيَّةِ، فأصبح المقهى مكاناً محبباً وطقساً كتابياً عند الكثيرين، ومن هنا فإنَّ المقهى قد مثَّل له حالة رائعة من الانسجام النفسي, لأنَّه يذكَّره دائماً بأستاذه نجيب محفوظ".
يقول لانس إليوت أدامز عن طقوس كتابة السيناريو عنده: "في حياتي، بعض الطقوس التي أقوم بها، كإشعال البخور، وتحضير القهوة، إسبريسُّو أو شاي، وتدخين التبغ (لا أنصح بذلك)، وعزف الموسيقى. هذا الصباح، كانت لدي جلسة كتابة موفَّقَة، حيثُ كنتُ أستمعُ لألبوم معيّن، في المَسَاءِ استمعت لموسيقى الصباح ذاتها. بعد الإمساك بقلم الحبر خاصتي، وجدت أنَّ الفعلَ البَسِيْطَ كفتح غطاء القلم ببطءٍ بإمكانه مساعدتي في الدخول لجو الكتابة؛ لأنَّ أغلب كتاباتي تكون مسودّات بخط اليد، فأنا أميل أكثر للكتابة اليدوية لكتابة النُّصوصِ الطويلةِ، أفضّل الدفاتر من نوع كامبريدج ميد ذي الصَّفحاتِ الصَّفْرَاء وبغلاف متين. أجد صفحاته ملساء جداً، مما يُسَهِّلُ عمليةُ الكتابة. في حياتي اليومية، أحمل عادة دفتراً من نوع مولسكين غلافه من الجلد الناعم، ذي صفحات مقسَّمة على النَّمط الشَّبكِيّ". ويعترف سعود السنعوسي أنَّ كلَّ عملٍ له طقوسٌ كتابيةٌ خاصة يقول: "أكتبُ على ورقة، أو منديل ورقي، أو على كفِّ يدي.. أكتب إلكترونيا على شاشة الكمبيوتر أو الهاتف المحمول. أكتب في غرفة المكتب.. في مقرِّ عملي الوظيفي.. في مقهى أو مطار أو بهو فندق.. أو أكتب، تسجيلاً صوتياً، في هاتفي المحمول إذا ما كنت أقود سيارتي أو في مكان لا أجد فيه فرصة كتابة ورقية..،أكتبُ في أي مكانٍ أو وقت دونما الحاجة إلى طقس بعينه طالما مارست طقوسي كاملةً قبل الفعل الكتابي.. أكتبُ في عزلةٍ حقيقيةٍ وإن كنت في أماكن عامة تضج بالنَّاس" وكان جورج برناردشو يصف عملية الإبداع بالألم، حيث يذكر أنَّ الدَّجاجةَ تصيح حين تبيضُ والشَّاعرَ يبدعُ متألماً. وكثيرة هي تلك الأقوال الخاصة بطقوس الكتابة عند المبدعين. ومن ثمَّ تكون معرفة الطُقُوسُ الكتابيةُ عند الكتاب الكبار من الأهمية بمكان وكل له طريقته الخاصة، وتصبح من ثم عتبةً من عتبات النُّصوص.
-----------------------
بقلم: د. عزوز علي إسماعيل