لن تتحقق الحرية والعدالة لواستسلم الشعبان للضباط وللسياسيين الانتهازيين وكلماتهم المعسولة.. وفى ثناياها السم القاتل
- هل يترك الشعبان السوداني والجزائري الميادين ويذهبا للنوم كما فعل شعبنا؟ أتمنى أنْ يخيب ظنى.
أعتقد أنّ الشعبيْن السودانى والجزائرى، قد استوعبا الأخطاء الفادحة، التى وقع فيها ملايين المعتصمين فى الشوارع والميادين (سواء فى تونس أو فى مصر).. وكان أكبرالأخطاء ترك الميادين، قبل تحقيق مطالب الجماهير.. وفى مُـقـدّمتها: الحرية الفردية والفكرية والسياسية.. والعدالة الاجتماعية.. ولأنّ هذيْن المطلبيْن لم يتحققا، لذلك رفضتُ- فى مقالاتى العديدة- استخدام لفظة (ثورة) لأنّ الأدق فى وصف ما حدث هو (انتقاضة عظيمة) تـمّ إجهاضها بمعرفة رموز النظام، الذى انتفض الشعب ضده، بهدف تغييره من جذوره.
ولعلّ موقف الشعب السودانى الذى بدأ انتفاضته يوم 19 ديسمبر2018 يؤكد أنه استوعب خطورة ترك الميادين (بعد حوالىْ خمسة شهورمن الصمود) ومع مُـقاومة برد طوبة.. وترك الأهل والعمل..إلخ.. وبالرغم من كل العوامل السيئة، فإنّ الشعب ظلّ على صموده، ولم ينخدع بموقف المجلس العسكرى، الذى أباح لنفسه (بدون إرادة شعبية) أنْ يحل محل النظام الفاسد السابق.. وتكون النتيجة- كما يقول شعبنا المصرى فى أهازيجه البديعة- (كأنك يا أبوزيد لارحت ولاجيت) وقد تصوّر المجلس العسكرى أنّ (مسرحية حماية الجماهيرمن بطش الشرطة) كانت من أجل سواد عيون الشعب.. وأنّ الهدف الحقيقى- كما توقــّـعتْ الجماهير هو السيطرة على السلطة.
وبعد المُـفاوضات المُـستمرة بين قوى الحرية والتغيير.. والمجلس العسكرى- طوال الأسابيع الماضية- أسفر ضباط المجلس عن وجوههم الحقيقية ونزعوا الأقنعة، ولذلك أصدرتْ قوى الحرية والتغيير بيانــًـا- يوم7مايو2019- قالت فيه أنّ الاجتماع المُـزمع عقده بين المجلس العسكرى.. وبعض القوى السياسية ((تسويف ومحاولة لاختطاف الثورة)).. ولذلك فإنّ قوى الحرية والتغيير ستعمل على اتخاذ ((خطوات تصعيدية)).. وهوالأمرالذى أكــّـد عليه بيان (تجمع المهنيين السودانيين)
وقال متحدث باسم قوى الحرية والتغيير أنّ الوثيقة الدستورية لاينبغى لها أنْ تحتوى على (مصادرالتشريع) وذلك ردًا على المجلس العسكرى الذى أصرّ ضباطه على أنْ ((تكون الشريعة الإسلامية هى مصدر التشريع)).. وذكر هذا السياسى المحنك أنّ نقطة الخلاف الأساسية بين قوى الحرية والمجلس العسكرى ((هى نسبة التمثيل فى المجلس السيادى)) بينما أصرّ الأحرار فى الميادين على أنْ ((يكون للضباط تمثيل محدود))..كما أنّ الضباط اعترضوا على إخضاع القوات المسلحة.. والأجهزة الأمنية للسلطة السياسية (المصدر: العربية نت- 8 مايو2019)
ومغزى موقف الضباط هو الاصرارعلى أنْ تكون لهم السيادة المطلقة.. وهذه السيادة لاتتحقق إلاّ بواسطة القبضة الحديدية.. وتلك القبضة فى حوزة الجيش والشرطة.. وبذلك يكون السودان قد عاد إلى (مربع حكم البشير من جديد) خاصة- لوأضفنا إلى ذلك- إصرارالضباط على تطبيق الشريعة الإسلامية.. كما كان فى عهد البشير الذى دمّرالسودان.. وفصل الجنوب عن الشمال.. ولذلك لم يكن مستغربــًـا أنْ يقف مع الضباط أحد أهم رموز التيارالإسلامى، المُـتعصب (صادق المهدى) الذى قال فى أحاديثه الصحفية.. وفى القنوات الفضائية أنه ((يرفض التصعيد ضد المجلس العسكرى السودانى)) فى محاولة لسحب السلاح الوحيد من عقول الجماهير، مقابل التأييد الصريح للضباط.. وهكذا تتأكــّـد الحقيقة الدامغة التى طبعتْ وختمتْ كل أنظمة الاستبداد..وهى (عمامة الشيوخ مع قلادات الضباط)
أعتقد أنّ ما فعله ضباط السودان يتشابه مع بيان عمرسليمان فى 11 فبراير2011 وكان أول مسمار فى نعش الانتفاضة المصرية، وينطبق عليه التعبير الشهير فى وصف (وعد بلفور): ((من لايملك أعطى لمن لابستحق)) فإذا كان شعبنا توحـّـد حول شعار(يسقط مبارك) فمعنى ذلك أنه لا يملك (تعيين) من يخلفه.. والمجلس العسكرى لم يرد ذكره فى دستور 1971 المعمول به وقتذاك.. وأنّ الخلف إما رئيس مجلس الشعب أو رئيس المحكمة الدستورية.. وإذا كان شعبنا خرج فى يونيو 2013 لاسقاط الإخوان المسلمين، فإنّ القوى الظلامية مازالت تفرض وجودها وبقوة أكثرمن الوضع قبل يناير2011.
يُـضاف إلى ذلك أنّ (العدالة الاجتماعية) لم تتحقق وتدنــّـتْ المستويات المعيشية مع ارتفاع أسعار كافة الخدمات والسلع الغذائية.. وكما رفض نظام مبارك ضم الصناديق الخاصة لوزارة المالية (الحد الأدنى مائة مليارجنيه) وإلغاء منظومة المستشارين (24 مليارجنيه) ورفض تطبيق الضريبة التصاعدية، ورفض إلغاء دعم الأغنياء (المستثمرين الذين يحصلون على دعم الطاقة) إلخ تكون النتيجة أنّ شعبنا (يعيش) فى منظومة حكم مبارك رغم اختفائه من المشهد السياسى.
وما حدث فى يناير 2011 حدث مثله فى يناير1977.. وتلك الانتفاضة العظيمة كان من الممكن أنْ تتحوّل إلى (ثورة) حقيقية، بمراعاة الخروج العفوى من جميع طبقات الشعب بعد مظاهرات عمال حلوان وطلبة الجامعات.. وأنّ الشعارات كانت (واحدة) من الإسكندرية إلى أسوان.. ولكن السادات (بخبث شديد) امتصها بالتراجع عن قرار رفع الأسعار، فذهب شعبنا لينام.. وبعد ستة شهور ارتفعتْ الأسعارمن جديد تحت شعار(تحريك الأسعار) تنفيذًا لتعليمات صندوق النقد الدولى.. ورغم أنّ السادات وصف تلك الانتفاضة العظيمة ب (انتفاضة الحرامية) وأيـّـده الشيوخ وعلى رأسهم النجم التليفزيونى الشيخ محمد متولى الشعراوى.. رغم ذلك فإنّ ابن مصرالعظيم المستشار منير حكيم صليب أصدر حكمه التاريخى بالإفراج عن (كل) المُــتهمين وعددهم 167 مصريًا من عمال وطلبة وصحفيين.
وفى مارس1968خرج شعبنا فى تظاهرات ضخمة للتعبيرعن رفض محاكمات ضباط الجيش الهزلية.. وكانت الشعارات تــُـردّد أنه يجب تقديم المسئولين الحقيقيين عن كارثة بؤونة/ يونيو 1967 وعلى رأسهم عبدالناصر، الذى امتصّ الغضب الشعبى بإعلان إعادة المحاكمة، فذهب شعبنا لينام.
فهل سيـُـكرّر الشعبان السودانى والجزائرى أخطاء شعبنا؟ هل سيتركان الميادين ويذهبا للنوم كما فعل شعبنا؟ أتمنى أنْ يخيب ظنى.. وأنْ يكتبا صفحة جديدة فى تاريخهما، ليس بإسقاط الدكتاتورية (فقط).. وإنما بتحقيق الحرية والعدالة.. وهذا لن يتحقق لواستسلم الشعبان للضباط وللسياسيين الانتهازيين وكلماتهم المعسولة.. وفى ثناياها السم القاتل.. والسؤال الشائك هو إلى متى سيستمر الصمود؟
-----------------------
بقلم: طلعت رضوان