12 - 05 - 2025

عادل صبري سجين المهنية

عادل صبري سجين المهنية

طالعت عدد جريدة " الوفد"  الصادر صباح يوم الثلاثاء 23 أبريل 2019 حيث كان مقررا اعلان نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية بعد خمسة أيام. وقد تحول لاحقا وفي يوم صدور الجريدة الى بعدها بساعات، فصدمني العنوان :" الشعب قال كلمته : نعم للاستقرار والبناء ". وهي بحق وبعيدا عن السياسة وخنادقها صدمة صحفية مهنية دفعتني للعودة الى اجتناب شراء الجريدة.هذا القرار الذي اتخذته في يوم من أيام ما بعد ثورة 25 يناير 2011 حين هالني ما قرأت في الصفحة الأولى من جريدة حزب الوطنية المصرية الليبرالي وشعار الهلال مع الصليب من عناوين وتغطية طائفية تحرض على الأقباط المسيحيين ،ولمجرد جريمة بين آحاد من عنصري  الأمة .  

 ولصحيفة "الوفد " بالأصل منزلة عزيزة على النفس منذ تابعتها مع اعدادها الأولى عام 1984  .ولا يمكن أن انسي مقالات ـ وبالأحرى العامود اليومي ـ الراحل الفقيه الدستوري المرموق ورجل القانون  البارز الدكتور "محمد عصفور" عن الاستبداد السياسي . فقد كانت على مدى سنوات بمثابة "أكاديمية مفتوحة على ورق جرائد" في التأصيل للحريات و تشخيص أمراض ومضاعفات الدكتاتورية وصناعة الطغاة وحكم الفرد . ومازالت اتمنى جمع هذه المقالات في كتاب أو مجموعة كتب شعبية زهيدة الثمن .وكي تضاف الى مؤلفات الراحل العملاق ،ومن بينها :" أزمة الحريات في المعسكرين الشرقي والغربي " و" الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي "، ناهيك عن مراجع لا غني عنها لرجال القانون والقضاء والمحاماة كـ " مذاهب المحكمة الإدارية العليا في الرقابة والتفسير والابتداع "..وغيرها .

   لكن الشأن الأكثر صلة بمهنية صحيفة حزب الليبرالية الأول في تاريخ مصر يتعلق هنا بالزميل الصحفي سجين المهنية " عادل صبري " رئيس موقع " الوفد" الإليكتروني ثم موقع " مصر العربية ". وهو عندي وغيري من أبناء المهنة بمثابة "محمد عصفور " بين أجيال تعاقبت من الصحفيين على جريدة " الوفد". ولقد صادف أن قابلت الرجلين ـ وكل على حدة ـ خارج أوراق الصحف و الفضاء الإلكتروني، فوجدت أيضا ما يجمع بينهما من دماثة الخلق و الطبع الهادئ الرزين، ناهيك عن خلفية مشتركة من توجهات ليبرالية أصيلة. وكأن هذا الصحفي المشهود له بالإخلاص للمهنية أولا جاء من أسد الحريات ودولة الدستور والقانون ذاك . ولذا اتعجب واستغرب ماجري ويجري للزميل العزير "عادل صبري" ولموقعه الإلكتروني "مصر العربية " ،وبخاصة فور أن نشر تقريرا اخباريا مترجما ترجمة دقيقة من صحيفة " نيويورك تايمز " الأمريكية في نهاية مارس 2018 عن حشد الدولة الناخبين للذهاب الى صناديق الرئاسية ، وقد نسبه الى مصدره وفق التقاليد المهنية .وزاد على هذا وضع الرابط الإلكتروني للمصدر الأصلي باللغة الإنجليزية . وعلما بأن مراسل "النيويورك تايمز" الزميل " ديكلان والش " كاتب هذا التقرير مازال يعمل الى يومنا هذا بالقاهرة رئيسا لمكتب الصحيفة وتنشر له تقارير واخبار وتعليقات عن مصر نهاية بالاستفتاء على تعديل الدستور . أكتب هذا بعد أن راجعت موقع "النيويورك تايمز" ولا تحدوني أي دوافع أو رغبة في التحريض على "وولش" أو مكتبه متمنيا له السلامة وحرية ممارسة المهنة في بلادنا وطيب المقام  في ربوعها . 

 وأعود الى أحوالنا فأقول بأن "مصر العربية" موقع جريدة اخبارية كان يعمل به ما يزيد على مائة صحفي شاب من المصريين يأملون في مواصلة مستقبلهم في عالم صاحبة الجلالة" على الرغم من مكابدتهم المصاعب الاقتصادية والتضييقات على ممارسة اعمالهم  ،وكذا ما تلاحق علي المهنة من لطمات وإهانات خلال السنوات الأخيرة. وقبل نشر التقرير المترجم تعرض الموقع لظلم بين واضح وضوح الشمس مع أعداد من المواقع الاخبارية والصحفية المصرية المحجوبة ومن مختلف الاتجاهات والميول بغير سند من قانون أو قرار محكمة منذ يونيو 2017 .ومن جراء هذا الحجب انخفض عدد الصحفيين العاملين بالموقع الى نحو الثلاثين وفق ما ابلغتني زميلة شابه من بينهم. وقد رفع " مصر العربية" وغيره من المواقع الشكاوى ضد كارثة الحجب الى كل ما يعتقد انها جهات معنية، فلم يتلق أي منها ردا ولا تفسيرا ولا حتى تبريرا .وكأن هناك أيادي خفية فظة تلاحق الآراء الحرة والمعلومات لتخنقها في المهد، وتفرض الإظلام على مجتمع بأسره .  وثالثة الأثافي أن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام ـ والذي بدوره لم يجب أو يرد على عديد من شكاوى الحجب  وكأنه لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ـ سارع في الأول من ابريل 2018 وفور نشر التقرير الإخباري المترجم بتوقيع عقوبة بغرامة 50 الف من الجنيهات على " مصر العربية " من دون تحقيق أو استدعاء لسماع دفاع  أو حتى ارسال تصحيح للخبر يلتزم الموقع بنشره  .وجاءت الغرامة بمبرر غاية  في الغرائبية والشذوذ بمعايير المهنة. وهو" كان على الموقع أن يتحقق من صدق التقرير أو يعلق على الخبر برأي ".وأنا أقرأ هنا وأمامي  من صورة ضوئية للقرار ،والذي لفرط ما يحمل من شبهات استعجال وترصد وجبروت صدر من دون تدوين تاريخ أو رقم لإصداره، وإن جرى الإعلان عن القرار في وسائل الإعلام في الأول من إبريل 2018 .وهكذا كأننا أمام " رأس ذئب طائر " في رسالة غير ودية للصحافة المصرية بأسرها .

 لكن لم تكن هكذا عقوبة كافية لتبرد نيران أشباح غاضبة من وراء الستار والحجب . فبعد يومين فقط ،داهمت قوة أمنية قالت انها من شرطة المصنفات الفنية مقر " مصر العربية " بالدقي .ووفق شهادات استمعت اليها من صحفيين شباب عملوا بالموقع فإن التحقيقات التي جرت مع اقتحام واحتلال الموقع لساعات قبل تشميعه في اليوم ذاته تطرقت الى الاستعلام عن مصادر تحقيقات منشورة عن قضايا فساد وفي مضمون أخبار ومقالات . ولم يقتصر الصيد الثمين للقوة المهاجمة على مصادرة الحواسيب ومختلف ادوات العمل الصحفي ، بل كان المطلوب أيضا هو حرية زميلنا الصحفي الليبرالي المشهود له بالمهنية رئيس التحرير " عادل صبري ". وشتان بين مصير زميلنا المصري وزميلنا " الأمريكاني " .وأقولها وأكرر من دون تحريض متمنيا السلامة وحرية العمل للجميع .

 أصبح زميلنا المصري سجين مهنيته بحق وإلى وقتنا هذا . في البداية ابلغوه ـ وفق شهادة زملائه في الموقع المحجوب فالمغلق ـ بأنهم أخذوه لـ " تحصيل غرامة المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام " . وبعدما تعهد بالدفع في اتصال مع رئيس المجلس ، صدر بيان من وزارة الداخلية يقول بأن احتجازه بسبب " عدم وجود ترخيص من الحي " .ولما أثبت محاموه قانونية الموقع و حصوله مع انطلاق تشغيله على التراخيص المسبقة من الجهات المعنية حينها كوزارة الاستثمار والمجلس الأعلى لتنظيم الاتصالاتزجوا بسجين المهنية الى القضية رقم 4681 لسنة 2018 بتهم يصعب تصديقها أو الصاقها بصحفي ليبرالي يراعي بدقة التدقيق في صحة المعلومة ويرعي تعدد الآراء ( نشر أخبار كاذبة و الانضمام الى جماعة على خلاف القانون ) . ولما قررت المحكمة إخلاء سبيله بقرار صدر في 9 يوليو 2018 بكفالة عشرة آلاف من الجنيهات ، أسرعت قوة خفية ما لتفاجئه وتفاجئ الجماعة الصحفية بإدراجه محبوسا احتياطيا  في قضية تقوم على اتهامات مماثلة تحمل رقم 441 لسنة 2018 . 

و  اعلم واشهد وغيري من أبناء مهنة الصحافة في بلادي بأن "عادل صبري" لم ينتم سياسيا إلا لحزب الوفد الليبرالي . وكان من بين خمسة صحفيين  بجريدة الحزب ومن موقعه كمساعد لرئيس تحرير أصيبوا بطلقات نارية في يوم شؤم  معالأول من أبريل  2006 حين تعرض مقر الحزب والجريدة بالدقي الى هجوم مؤسف على خلفية الصراع على زعامة .حينها كان سجين المهنية الآن محل رعاية و عطف وزيارة زملائه وأصدقائه والوفديين ، وهو في حالة خطرة بقسم العناية المركزة بمستشفى مصرالدولي . وكم ذا من أبريل اسود في مسيرة  صاحبنا . ولقد حاولت أن أكذب نفسي وأهزأ بسلامة الذاكرة وقد تجاوزت الستين، فراجعت أرشيفات بوابة " الوفد" الإلكترونية حين كان يرأس تحريرها ويقودها مشهودا له بالمهنية، فطالعت مقالات باسمه تنتقد قيادة جماعة الإخوان بصراحة ووضوح ،وهو المتهم بموالاتها  اليوم . وأذكر على سبيل المثال بهذين العنوانين راجيا من لديه اهتمام ووقت ان يعود إليهما وغيرهما: " شهوة الاستحواذ على الدستور والرئاسة " بتاريخ 6 إبريل 2012 و "مصرية تبحت عن وطن بلا مبارك ولا اخوان " بتاريخ 18 مايو 2013 .. والمقال الأخير قبل الاطاحة بالرئيس المعزول "محمد مرسي" بأيام. واستطيع أن أضيف إلى كل هذا أن "عادل صبري" كان مندوبا لصحيفة " الوفد" معتمدا لدى رئاسة الجمهورية والبرلمان في عهد مبارك.  وبالطبع هي جهات لا تعتمد صحفيا وتسمح له بالدخول إليها إلا بعد تحريات من أجهزة أمنية متعددة ، تشمل حتى العائلة و الأصدقاء .  

 ثمة قسوة مبالغ فيها تطبق على زميلنا المهني الليبرالي هو الآخر في محبسه . تمديد بعد تمديد 45 يوما في مسلسل لا ينتهى. نتمنى أن تكون آخر حلقاته مطلع الشهر الجاري وتحديدا يوم 3 أبريل 2019. والأكثر قسوة ومكايدة ، لا تليق في علاقة سلطة دولة مع مواطنيها ولا نقل صحفييها ، أن ترحل شقيقته في 4 أغسطس الصيف الماضي ووالدته في 23 أكتوبر 2018 دون ان يجرى السماح له بالخروج مؤقتا لحضور الدفن أو العزاء  ، رحمهما الله و خفف عنهما وعوضهما ما عانياه مع غيابه ومحنته .

 شخصيا اشعر بالألم والعجز معا تجاه زميل مهني محترم دمث الخلق وإزاء اسرته المكونة من زوجة فاضلة  و أربع بنات و ابن كان الله في عونهم جميعا . و يلح على الخاطر، وأنا أكتب عن واحد من أبرز سجناء الصحافة المصرية اليوم ومن أبرز أبناء جيل الوسط في مهنتنا، مشاهد ومواقف على دماثة خلقه وليبراليته. ويلح في المقدمة دائما مهنيته. بل وتنتابني حيرة المصدوم في الصامتين من أهل "الوفد " وقيادته، وهي على ماهي حاليا قربا من دوائر الحكم ومؤسسات السلطة وأجهزتها. 

وأرى أيضا أن مجلس نقابة الصحفيين عليه واجب العمل بإخلاص وهمة من أجل حرية زميلنا "عادل صبري" ومن تبقى من الزملاء مقيدي الحرية .وإلا ذهبنا الى بارئنا جميعا بعار الصمت هذا إزاء معاناة المظلومين خلف القضبان . 

ونجانا الله وإياكم من كل محنة وشر .
----------------------
بقلم: كارم يحيى

 

 

مقالات اخرى للكاتب

29 أكتوبر 56: العدوان الثلاثي ومذبحة عمال