ضمن حملة بدأت قبل أسبوع لتخوين المعارضين واتهامهم بالعمالة والاستقواء بالخارج، انتشرت على بعض المواقع الإخبارية الشهيرة، أبيات ركيكة لكاتب الأغاني المغمور إسلام خليل، مصحوبة بصور للممثلين عمرو واكد وخالد أبو النجا اللذين اعترضا على التعديلات الدستورية، وتحدثا عن أوضاع حقوق الإنسان في مصر، أثناء مشاركتهما في جلسة استماع عُقدت في إحدى قاعات مجلس الشيوخ برعاية عضو مجلس النواب توم مالينوسكي.
بعت نفسك بكام يا خاين ولا خايف من الحسد
ما أنت زى اللى قال عليهم ربنا فى سورة المسد
قولى يا اللى مالكش قلب روحت بعت لأى كلب
رٌحت بعت لأردوغان ولتميم ابن الجبان
ولا بعت لإسرائيل والشيطان سيدك ترامب
خدت كام ثمن الخيانة والرصيد اللى اترصد
بعت شرفك بالدولار أيها الكلب الحمار.
بس خلاص.. هكذا ختم كاتب منولوجات شعبان عبد الرحيم، كلمات ما أطلق عليه موقع إحدى الصحف "قصيدة جديدة لإسلام خليل تفضح العملاء الخونة"، في حين أعلن "الدويتو" شعبان وخليل التحضير لأغنية جديدة للترويج للتعديلات الدستورية.
يبدو أن ما قاله واكد وأبو النجا في واشنطن، نكأ جرحا لدى بعض الدوائر التي خططت لأن يبقى ملف التعديلات الدستورية سريا لا يخرج عن قاعات البرلمان المصري، فما بالك بطرحه على دائرة من دوائر اتخاذ القرار الأمريكي وقبل زيارة الرئيس السيسي إلى واشنطن بأسابيع قليلة.
لم يكتف الإعلام المرئي والمقروء بالخوض في الذمة الوطنية للممثلين المصريين، بل طعن البعض في شرف أحدهما، وتصدرت صورة مفبركة لهما في حوض سباحة غلاف مجلة "حريتي" الأسبوعية تحت عنوان "عملاء.. وأشياء أخرى!"، وتكررت التلميحات الجنسية في أكثر من منصة الكترونية، ولاحقت بعض المنصات الإعلامية أبو النجا باتهامات "المثلية".
نقابة المهن التمثيلية التي من المفترض أن تحمي أعضائها وتدافع عن حقوقهم في إبداء الرأي، سارعت باتخاذ قرار بشطب واكد وأبو النجا بدعوى أنهما ارتكبا "خيانة عظمى للوطن والشعب المصري.. إذ توجها دون توكيل من الإرادة الشعبية لقوى خارجية واستقويا بهذه القوى على الإرادة الشعبية واستبقا قراراتها السيادية لتحريكها في اتجاه مساند لأجندة المتآمرين على أمن واستقرار مصر".
صدر قرار شطب الممثلين، بالمخالفة لمواد قانون نقابة المهن التمثيلية، الذي نص على إجراءات محددة لـ"زوال العضوية" حصرها في "صدور أحكام بعقوبة جنائية في جريمة مخلة بالشرف أو إذا تاخر العضو عن أداء الاشتراك السنوى فى موعد استحقاقه"، أما في حالة الشطب بقرار تأديبي فتبدأ الإجراءات بـ"إخطار العضو بالمخالفة، ثم إحالته إلى لجنة التحقيق لسماع أقواله ودفوعه، ومنها إلى لجنة التأديب التي تصدر قرارها وتتلوه على العضو أو على وكيله القانوني، وله أن يتظلم أمام لجنة التاديب الاستئنافية".
المفارقة أن النقابة التي يرتبط عملها بالابداع والقفز على الحدود وتحدي الشائع في المجتمع، اختارت الشطب للتعامل مع عضوين ممن يحملون أراء معارضة، ورفض نقيب المهن التمثيلية أشرف زكي تبرير صدور القرار المخالف للقانون وللأعراف النقابية، وهو ما يؤكد أن ملاحقة أي صوت معارض في مصر، أصبحت بلا أي ضوابط ولا حدود.
لم يكن تصرف نقابة المهن التمثيلية، إلا ترجمة واقعية لفلسفة القائمين على الحكم في مصر، للتعامل مع المعارضين، فقد تحول الداعون إلى التظاهر السلمي للتعبير عن رفضهم لـ"التعديلات الدستورية" إلى "أصوات خائنة" على حد وصف عبدالهادي القصبي، رئيس ائتلاف دعم مصر، زعيم الأغلبية البرلمانية.
القصبي قال خلال جلسة "الحوار المجتمعي" حول التعديلات الدستورية، الخميس الماضي أن" مجلس النواب فتح بابه أمام الجميع لإبداء رأيه سواء مؤيد أو معارض"، واصفا الداعين لهذه الوقفات بـ"أصوات خائنة".
وفي ذات اليوم ظهر تقرير بصياغة موحدة على عدد من المنصات الإعلامية يتهم أعضاء أحزاب الحركة المدنية بـ"الاستقواء بالخارج وتلقي تمويلات أجنبية"، فقط لأنهم نظموا مؤتمرا صحفيا للإعلان عن موقفهم من التعديلات، وأن هذا المؤتمر حضره مراسلو قنوات دولية. وفي اليوم التالي، دعا نائب آخر إلى إسقاط الجنسية عن أعضاء الحركة المدنية الديمقراطية، متهماً اياهم بالخيانة.
اللافت أن بعض ممن وجُهت لهم اتهامات بـ"الخيانة"، دعاهم رئيس البرلمان للاستماع لرأيهم في التعديلات المقترحة، وتحدث في جلسات الحوار قيادات من "الحركة المدنية" منهم كمال أبو عيطة وفريد زهران ومدحت الزاهد، فكيف لرئيس البرلمان أن يدعو إلى مجلسه خونة؟
ظن البعض، ومنهم كاتب هذه السطور، أنه وبعد ثورة 25 يناير وموجتها الثانية في 30 يونيو، أن اتهامات التخوين للمعارضين، ستمحى من قاموس المصطلحات السياسية المصرية، واعتقدت مع غيري، أن مصر الجديدة قادرة على احتواء كل الأراء مهما اختلفت أو شط بعضها، وأن أحد شروط الحياة السياسية السليمة هو تنوع الأفكار والاتجاهات، وأن على السلطة التي تحكم أن تحافظ على هذا التنوع، لأنه الداعم للاستقرار والتقدم، وعلى العكس تماما، فسقوط الدول في براثن الجهل والتخلف والاستبداد هو نتاج سياسة الصوت الواحد والرجل الواحد والنظام الواحد.
أن التوسع في استخدام سلاح التخوين لملاحقة المعارضين في مصر، هو استنساخ لتجربة أمريكا الأليمة في خمسينيات القرن الماضي حينما تزعم السيناتور الجمهوري جوزيف مكارثي، رئيس لجنة النشاطات الأمريكية في مجلس الشيوخ الأمريكي حملة لملاحقة ما أسماهم "أعداء الديمقراطية وأولياء وجواسيس الاتحاد السوفيتي داخل الولايات المتحدة".
بدأت حملة مكارثي بقائمة طويلة قيل إنهم "شيوعيون وجواسيس" في الخارجية الأمريكية، ثم امتدت المكارثية لجميع قطاعات المجتمع الأمريكي، وراح ضحيتها أكثر من مائتي شخص تم الزج بهم في السجون، وما يزيد عن 10 آلاف تم طردهم من وظائفهم والتنكيل بهم بدعوى أنهم "خونة وعملاء وطابور خامس"، دون وجود أدلة تثبت تلك التهم.
اُستخدمت وقتها ممارسات التفتيش فى الضمائر وتلفيق الاتهامات والفضائح لإسكات الآراء المخالفة ليس فقط للحكومة، وإنما لكل من يعترض على المكارثية ذاتها، وطالت الحملة رموزا في الأدب والفن والسياسة، منهم مارتن لوثر كينج و ألبرت أينشتاين وآرثر ميللر وتشارلى تشابلن.
في البداية أيد أغلبية الأمريكيين الحملة، بعد أن أقنعتهم الألة الإعلامية بما اعتبرته خطر الشيوعية، التي صدرها مكارثي كدين "يريد القضاء على المسيحية"، لكن فيما بعد، قل تأييد الأمريكيين لمكارثي، بعد أن تأكدوا من أن اتهاماته بلا سند.
ثم دارت الدوائر على السيناتور الأمريكي وقدم إلى محكمة بتهمة الفساد والتزوير، وأدانه الكونجرس، ووجه إليه لوم رسمي، وأدمن المخدرات ومات بسببها. منذ ذلك الحين استخدمت "المكارثية" كتعبير عن الحملات الزائفة ضد المعارضين الذين تتهمهم الأنظمة المستبدة بـ"الخيانة والتأمر على الوطن".
لا أعرف إن كانت تروس ماكينة "التخوين" من "مكارثيين مصريين" على علم بما جرى في الولايات المتحدة قبل 7 عقود أم لا، لكنهم حتما كانوا شهودا على ما جرى قبل 7 سنوات لأسلافهم من سدنة حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك عندما دارت عليهم الدوائر وصاروا في موضع الاتهام وتم التشهير بهم على روؤس الأشهاد.
لقد كفر المواطن بما تنتجه "الماكينة الجهنمية" من اتهامات تطال كل من تسول له نفسه الخروج عن الخط الذي ترسمه السلطة، وفي بعض الأحيان يتعاطف الرأي العام مع المستهدفين من تلك الحملات منتهية الصلاحية حتى تصبح هي والعدم سواء.
أصبح العقل مغتربًا يتسول يقذفه صبيه بالحجارة
يوقفه الجند عند الحدود وتسحب منه الحكومات جنسية الوطن
وتدرجه في قوائم من يكرهون الوطن..
قلت فليكن العقل في الأرض
لكن لم يكن
سقط العقل في دورة النفي والسجن
حتى يجن
ورأى الرب ذلك غير حسن..
من ديوان "العهد الآتي" للشاعر أمل دنقل
--------------------
بقلم: محمد سعد عبد الحفيظ
كاتب صحفي- عضو مجلس نقابة الصحفيين