انتهاكات بالجملة للمواد الدستورية التي تحصن حرية الرأي والصحافة تضمنتها لائحة الجزاءات التي أصدرها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام والتي أسميها بقانون العقوبات المصغر، فقد انتزع المجلس لنفسه حقوقاً ليست له تمد ولايته ورفع عصا عقوباته على الحسابات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، ومنح لنفسه الحق فى إصدار عقوبات فى شأنها، ولا أحد يعرف كيف سوف يقوم بتنفيذها، هل ستطالب يا أستاذ « مكرم « بشرطة خاصة بالمجلس ؟.
وتمثل انتهاكات الدستور فى هذه اللائحة العقابية استمرارا لحالة الاستخفاف بالدستور حتى قبل أن نقوم بتطبيقه، أو إصدار القوانين المنظمة لغالبية مواده، وتجرى على قدم وساق عملية إجراء تعديلات على مواده فى ظل « حوار مجتمعي» هزلي يبدأ عادة بعد أن تكون الجهات المسئولة والمتنفذة قد انتهت من إتمام ما تصبو إليه.
وفى حين تكفل دعم مصر بتعديل المواد الخاصة بالرئاسة يتكفل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بمواد الحريات التي حذرت المادة 92 من الدستور من أنه « لا يجوز لأي قانون ينظم الحقوق والحريات أن يقيدها بما يمس أصلها وجوهرها « ولكن أحدا من الأمنيين لم يحترم الدستور.
والحق أن هذا النص عبر بدقة عن مضمون ومحتوى حركة الكفاح الوطني المصري طيلة ما يزيد على القرنين من الزمان من أجل ضمان الحقوق والحريات، ليس للتباهي بها، واللحاق بالدول المتقدمة كما يقال ولكن كأدوات لمشاركة فعالة للمصريين فى تقرير مصيرهم والسيطرة على حياتهم، سواء فى مواجهة الغزوات الخارجية التي لم تنقطع منذ نهاية القرن الثامن عشر، أو فى علاقتهم بالسلطة.
من المؤسف حقاً أنه يروج الآن فى بعض الأوساط الثقافية والشعبية حتى فى الأوساط التقدمية القول بأن الحريات الديموقراطية ليس من الضروري أن تكون من أولويات المطالب الوطنية والشعبية فى هذه المرحلة العصيبة من تطورنا فهناك مقاومة الإرهاب وتأمين لقمة العيش ثم تأتي الحريات فيما بعد وقد لا تأتي.
ويقرأ البعض فى هذا السياق نقد الفكر الاشتراكي للديموقراطية البورجوازية باعتباره إذن مرور لتجاهل الديموقراطية السياسية ووضعها فى آخر أجندة العمل الوطني، بينما واقع الأمر لمن يتأتي ويدقق أكثر هو أن النقد الاشتراكي للديموقراطية البورجوازية قام أساساً على تعميق هذه الديموقراطية وتوسيع آفاقها مع التأكيد على أن الاشتراكية هي الديموقراطية الحقه، حيث لا تبقى المساواة بين البشر محصورة فى نطاق القانون وحده، بل إنها تتحول إلى واقع على الأرض فى كل مجالات الحياة، لأن المساواة البورجوازية أمام القانون وحده تنطبق اسماً على طرفين غير متكافئين أحدهما ضعيف، وهو الذي لا يملك أي أغلبية الشعب، وأحدهما قوى لأنه يملك، كما أن ثروته هي الطريق الذهبي إلى السلطة غالباً فى المجتمع الرأسمالي.
وبعد أن تفاقمت أزمات الماركسية قبل وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومة البلاد الاشتراكية، وهو الانهيار الذي أنعش الامبريالية، وأدى إلى توحش الرأسمالية، نشط المفكرون الماركسيون الذين كان غياب الحريات والحقوق الديموقراطية بما أدى إلى اللامبالاة، واقصاء الجماهير عن السياسة فى بلدان المنظومة الاشتراكية كان هذا الغياب هو أحد الاسباب الرئيسية لانهيار المنظومة، وأخذوا يعيدون قراءة النصوص التأسيسية للماركسية وتبلورت فى كتاباتهم وفى نضالهم الماركسية التحليلية التي أبرزت العمق الديموقراطي فى كتابات الآباء المؤسسين، وقال التحليليون إن الحريات والحقوق الديموقراطية التي دعت إليها الليبرالية دون أن تعترف بالصراع الطبقي هي أساس لاغنى عنه لاشتراكية المستقبل لأن الديموقراطية هي المضمون الحقيقي للإشتراكية التي يتمكن فى ظلها كل أفراد الشعب من السيطرة على مصائرهم حيث تنفتح كل طاقاتهم ومواهبهم دون خوف او عائق، وبذلك يصلون إلى أقصى ما يمكن أن تحملهم إليه هذه الطاقات والمواهب، والإرادة الإنسانية الحرة الطليقة، فتزدهر حياتهم وتزدهر الأوطان.
فى ظني أن هناك مهمة عاجلة لابد أن تنهض بها مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب الديموقراطية والنقابات وجماعات المثقفين لوقف هذا التغول على الحريات المحدودة، وهو تغول يمارسه المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والذي يرأسه زميل صحفى مخضرم هو « مكرم محمد أحمد « الذي طالما دافع عن الحريات، وقد أحسن الزميل « عبد اللطيف المناوي « حين ذكر « مكرم « بما كان قد قاله فى هذا السياق قبل سنوات حين قال « إن مهامنا الضخمة ينبغي أن لا تصغر إلى حد الاعتقاد بان إسكات صوت واحد معارض هو الذي سوف يحقق أمن مصر واستقرارها، ويساعد بسطاء مصر على ابتلاع بلايا الغلاء».
وقال « مكرم « أيضا « ليس هناك نظام فى العالم يمكن أن يجر صحفيين بحبل ليف ويذهب بهم إلى الحبس على طريقة نائب الأرياف « لأن هذا أولا يدمغ النظام بأكثر مما يدمغ الصحفيين «.
ويتساءل الزميل المناوي محقاً ما الذي سيذكره التاريخ لأستاذنا ماقاله ومواقفه المدافعة عن حرية الصحافة، أم لائحة العقوبات ؟ «.
يحتاج موقع « المشهد « الذي حجبه « مكرم « وغرم صاحبه الزميل مجدي شندي 50 ألف جنيه إلى أوسع حركة تضامن من كل المدافعين عن حرية الرأي والصحافة كما نص عليها الدستور، ولعل هذا التضامن يكون بداية لإعادة النظر فى قوانين الصحافة والإعلام التي عبث بها « الأمنيون» بعد أن كانت قد توافقت عليها الحكومة مع الذين صاغوها من صحفيين وإعلاميين وقانونيين وشخصيات عامة إشتغلوا جميعاً خلال عام ونصف العام وصولا إلى التوافق العام، وأصبح مثل هذا السلوك من قبل بعض الجهات الأمنية قاعدة جرى تطبيقها أيضا على قانون الجمعيات.
ولا يسعنى هنا إلا أن أسأل الزميل مكرم محمد أحمد : ليه يامكرم ؟.
------------------
بقلم: فريدة النقاش