يـُـعتبر إبراهيم باشا (1789- 1848) أحد الشخصيات المهمة فى تاريخ مصر الحديث.. وذلك بمراعاة حبه وإخلاصه لشعبنا المصرى (بالرغم من أصوله الأجنبية- يقول البعض فى "نصرتلى"- التابعة لتركيا) وبالرغم من ذلك كان يتمنى استقلال مصرعن تركيا- بالضبط كما كان أبوه (محمد على) يتمنى ويسعى لتحقيق ذلك.. وكان إبراهيم يرى ضرورة دخول القسطنطينية وخلع السلطان محمود عن عرش الخلافة العثمانية.. ولذلك أخذ يلح على والده (بعد موقعة قونية) بإملاء الشروط الكفيلة بتحقيق رغبته ورغبة والده.. وجعل أوروبا- التى تساند الخلافة العثمانية- أمام الأمرالواقع.. وأنْ يـُـصدر إليه الأمرليقتحم بجيشه القسطنطينية.. وكتب إلى والده رسالة ( 28 ديسمبر1833) قال فيها ((فى وسعنا أنْ نزحف على الأستانة.. ونخلع السلطان على الفور من غيرعناء. لكننى أحب أنْ أعرف: هل ترغبون حقــًـا فى تنفيذ هذه الخطة؟ لأنّ تنفيذها يتطلب الاستعداد.. وأنا أعتقد أنّ مشاكلنا يجب أنْ تــُـسوى فى الأستانة، لا فى غيرها لكى نــُـملى إرادتنا.. ولافائدة من الوقوف عند حدود قونية، البعيدة عن الأستانة)) وفى رسالة ثانية قال ((ولرب معترض يقول إنّ أوروبا لاتوافق على اقتراحى.. وجوابى أنه يجب علينا أنْ نتقدم للعمل دون إبطاء.. وقبل أنْ تــُـدرك أوروبا رغبتنا.. وتفسد خطتنا))..ولكن- بكل أسف- فإنّ والده رفض احتلال الأستانة، وكان تبريره: ((إنّ أوروبا تحرص على بقاء واستمرارالخلافة العثمانية.. وإذا دخل الجيش المصرى واحتل الأستانة، فإنها لن تسكت.. وقد تجتمع الجيوش الأوروبية وتـُـحاربنا)) فكتب إبراهيم رسالة ثالثة لوالده قال فيها: ((يجب ضم قبرص وتونس وطرابلس إلى مصر)) فكان من رأى والده: إنّ البلاد التى يريد إبراهيم ضمها إلى مصر- خاصة التى تقع فى البحرالأبيض المتوسط- هى مراكز احتكاك بأوروبا.. وبناءً على ذلك لم تتحقق رغبة إبراهيم.
***
ومن بين الأعمال المهمة لإبراهيم أنه عندما تولى حكم الشام (سوريا وفلسطين ولبنان والأردن) اهتـمّ بتنظيم تلك الأقاليم إداريـًـا.. وبدأ بسوريا، فأعاد تنظيم الهياكل الإدارية والسياسية والعسكرية.. وركــّـزعلى تأمين حدودها الشمالية، ليتسنى له مراقبة حركات تركيا وروسيا، فحصـّـن مضايق طوروس.. وخاصة مضيق (كولك- بولاية أدنة) حتى يتسنى له التحكم فى مداخل الأناضول.. كما أنه اتخذ أنطاكية- عند الحدود الشمالية- مقامًـا له.. وقسّـم سوريا إلى ولايات، مثل ولاية حلب وولاية طرابلس إلخ.. وحرص على استتباب الأمن، لتحقيق ((تنمية موارد الثروة)) فأصدر أوامر صارمة إلى جميع حكام الولايات، بمعاقبة كل من ((يقطع الطريق العام)) وجاء فى المنشورالذى أرسله إلى ولاته ((وقد اتخذتُ على عاتقى أنْ أحقق الرفاهية لجميع السكان.. والتى لا أضمن تحقيقها إلا بتطبيق العدل))
ولكى يحقق الاستقرار لقبائل البدو الذين يعيشون فى صحراء سوريا الشرقية، لكى يكفوا عن عاداتهم البدائية الهمجية (خاصة عادة السطوعلى القوافل التجارية.. ونهب ما فيها من بضائع) أصدر أمرًا بإعفائهم من الضرائب.. وأقرضهم مالا لشراء الثيران.. والأدوات اللازمة للزراعة.. ولكنه ضرب بقوة كل من رفض الانضمام إلى ((منهج تلك الحياة الجديدة))..وحرمهم من الحضور إلى المدن لبيع صوف أغنامهم. وعندما رضخوا- فى النهاية- لأوامره.. واستسلموا أمام إصراره.. كانت النتيجة أنه نجح- إلى حد كبير- فى استئصال ما رسخ فى طبيعتهم من سلب ونهب.
وذكر من أرّخوا سيرة إبراهيم أنه بجانب استتباب الأمن، قضى على التعصب بأنْ ساوى بين جميع أصحاب الأديان المختلفة ((بطريقة لم تكن معروفة من قبل فى الشرق كله.. وليس فى سوريا فقط)) فسمح للمسيحيين بإرتداء العمائم البيضاء، بعد أنْ كانت مُـحرّمة عليهم.. وسمح لهم بركوب الخيل داخل المدن.. وذلك أغضب أعضاء الكهنوت الدينى فى دمشق، فذهب وفد منهم لمقابلة إبراهيم.. واشتكوا من أنّ المسيحيين صاروا يركبون الجياد (مثلنا).. وأنّ الفوارق بيننا وبين (الكفار) زالت. فلما خرجوا لم يجدوا الجياد التى أتوا بها.. ووجدوا مكانها الجمال.. وقال لهم ساخرًا: وهكذا تظل الفوارق موجودة: فأنتم تركبون الإبل..وهم يركبون الجياد.
وأمر برفع المكوس والضرائب التى كانت مفروضة على الأديرة والحجاج المسيحيين.. وجاء فى القرار: ليعلم شيخ المسجد الأقصى والمفتى أنّ القدس الشريف يحتوى على معابد وأديرة وآثار يزورها ((جميع الملل الموسوية والعيسوية)) وأنّ الطرق المُـوصـّـلة إلى هذه الأماكن المقدسة بها إشغالات وحـُـفر تعوق الحركة، ويجب تمهيد هذه الطرق، لحماية الحجاج المسيحيين.. كما أنه سمح بهدم قصر عبدالله باشا..واستخدام مواد البناء المُـستخرجة منه، لبناء الديرالذى رفض عبدالله باشا أنْ يسمح لهم ببنائه.. وكان المسيحيون يبحثون عن مكان لحفظ طعامهم القابل للتلف، فسمح إبراهيم لهم باستخدام المسجد ليكون مخزنــًـا لهم..وقال أنّ ((رجالى يستطيعون الصلاة فى الهواء الطلق).
وكانت سياسة إبراهيم المالية فى سوريا، لاتميل- مثل الحكومات الاستبدادية- إلى زيادة دخلها باغتصاب ونهب موارد الوطن.. وزيادة الضرائب على المواطنين الفقراء.. وترك للناس مطلق الحرية فى تجارتهم.. ويتصرف المزارعون فى محاصيلهم برغبتهم، مع تحصيل رسم ضئيل فى السنتيْن الأولييْن.. وأعطى الأرض لمن يفلحها.. وإذا ظهر أنّ الأرض غير صالحة للزراعة، يـُـعفى الفلاح من دفع أية ضريبة عنها.. كما أنه عيـّـن المسيحيين فى الوظائف الإدارية والمالية.
ويعتقد كل من أرّخوا لسيرة إبراهيم باشا، أنّ من أعظم إنجازاته القضاء على الحركة الوهابية.. وخصوصًـا- كما ذكرالجبرتى- ((تخليص الحرميْن الشريفيْن من قبضة الوهابيين..وكان السلطان يرسل لمحمد على لتوجيه حملة قوية ضد الوهابيين)) (عجائب الآثارفى التراجم والأخبار- ص89، 94- ج4) كما انتصرإبراهيم على جيش عبدالله بن سعود بالدرعية ضمن الحملة التى جرتْ بين عامىْ1816، 1819، فقضى على حكم آل سعود فى تلك الفترة.. ولكن- وبكل أسف- فإنّ الحلف الوهابى/ السعودى استمر فى الصعود حتى لحظتنا الراهنة البائسة.
----------------
بقلم: طلعت رضوان