10 - 11 - 2024

الاستبداد بالرأي

الاستبداد بالرأي

تعليق متأخر على ما سمعه الشعب من الرئيس «ما تسمعوش كلام حد غيرى». حينما قالها فى لحظة غضب أو طبقا لسوء المستشارين. فلا أحد من البشر يطالب غيره من البشر بأن يكون كلامه هو وحده مسموع. هذا ضد القرآن الكريم والسنة الصحيحة. وقد كان العديد من الحكام فى العراق وسوريا وليبيا يقولون مثل هذا القول. وهو ضد الطبيعة البشرية التى تحب أن تجادل، وألا تقبل شيئا على أنه حق إن لم يثبت بالبرهان أنه كذلك. وإبراهيم آمن ولكنه طلب البرهان كى يطمئن قلبه. والله يسمع حوار الناس الذى يصل إلى حد جدل الزوجين «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ». والكلام الواحد مصيره الطاعة العمياء. فلا نقاش فيه ولا جدال.

وهو موقف أقرب إلى موقف الشيعة فى الإمام المعصوم وعدم جواز الخطأ عليه. وهو ما زُرع فى قلب المصريين منذ العهد الفاطمى قبل تحولهم من الشيعة إلى السنة. وحتى الآن الحسن والحسين مزاران. وحب آل البيت مستوطن فى القلوب. وهو الإمام الأوحد فلا يجوز وجود إمامين فى نفس الزمان. وهو ما قد يفسر الصراع بين الزعماء العرب. كل يريد الزعامة.

وهو ما قد يفسر الاستبداد الضارب جذوره فى وعى الزعامة العربية. فلا زعيم إلا أنا. هو صلاح الدين وعبدالناصر، هو مخلص الشعب من محنته. وكل ما يُقال عن التنوير منذ قرنين من الزمان يضيع هباء لأن الجذر هو القول الواحد الذى يستبعد كل الأقوال الأخرى. فأصل الاستبداد هو أحادية الطرف، القول الواحد، الرأى الواحد، القرار الواحد، ما تبقى من حديث الفرقة الناجية فى الوعى القومى، الفرقة الناجية واحدة وباقى الفرق هالكة.

فكيف تكون المعارضة إذن ممكنة وهى مدانة منذ البداية؟ كيف يكون الرأى الآخر ممكنا والحق واحد لا تعدد فيه؟ لذلك غابت المعارضة الجادة من نظمنا السياسية أو ضعفت أو زورت لصالح الحزب الحاكم.

والمعارضة فى صلب القرآن عندما اعترض إبليس على الله كيف يكرم آدم وقد خُلق من طين بينما خُلق إبليس من نار؟ وأيهما أفضل، الطين أم النار؟

الأفضل سماع رأى الآخرين. فالحق متعدد وليس حقا واحدا. لذلك تعددت الاجتهادات والمذاهب الفقهية وكلها صواب. وفى الوقت الذى انغلقت فيه المذاهب الفقهية على نفسها، تشجع مذهبا ضد آخر، يُغلق باب الاجتهاد. ويقع المسلمون فى التقليد، القول الواحد دون غيره كما هو الحال فى السياسة هذه الأيام.

وماذا لو قال آخر نفس الشىء، لا تسمعوا كلام أحد غيرى، ووقع المجتمع فى تضارب الزعامات؟ فإذا ما تحولت إلى صراع على السلطة وقعت الأمة فى حرب طائفية مذهبية كما يحدث الآن فى العراق وسوريا واليمن، وبدلا من الوحدة التى هى صدى التوحيد تقع الأمة فى التجزئة والتفتيت والصراع المذهبى والطائفى.

وقد تعامل القدماء مع القول الواحد بالتأويل. فالقول واحد ولكن الدلالة مختلفة طبقا لنص باللغة العربية التى بها المحكم والمتشابه، والظاهر والمؤول، والمجمل والمبين. لذلك ظهر علم التأويل عند الفلاسفة أو الصوفية وأضاف المحدثون ذاتية النص، وأن النص لا يتضمن معنى موضوعيا يمكن فهمه على نمط واحد. بل النص تجربة حية لكل فرد وجماعة تكيفه حسب حاجاتها.

كما أخرج القدماء علم التعارض والتراجيح لحل مشكلة التعارض بين الأقوال وترجيح معنى على آخر. فلا يوجد نص واحد له دلالة واحدة. لذلك كان القول بألا يسمع الشعب كلام غير الرئيس قول تنظيرى خالص، سلفى. فالكلام ليس له دلالة واحدة. وتتغير دلالاته طبقا لحاجات السامع. وبالتالى تكون محاربة السلفية الحرفية النصية بالوقوع فى بئرها.

إن ما طولب به الشعب «ما تسمعوش كلام حد غيرى» يضاد القرآن والسنة. فالقرآن يحاور ويوم الحساب سؤال وجواب. وفى الحديث «كلكم راد وكلكم مردود عليه إلا رسول الله». فليس الرئيس مثل الرسول. وهذه مأساة النظام التعليمى الذى يقوم على السمع والطاعة، سماع كلام الأستاذ وعدم مناقشته، وسماع كلام الأب، كبير العائلة وعدم معارضته. وتثبت الثورات والانتفاضات قيام الشعب ضد هذا الكلام كله لإثبات الرأى الآخر حتى ولو كان عنوة مادام لم يسمح به سلماً. وإلا فماذا تعنى الديمقراطية التى يتشدق بها النظام، إلا إثبات الرأى والرأى الآخر؟.
---------------------
بقلم: د. حسن حنفي

مقالات اخرى للكاتب

ماذا يعني قول المسلم