لا يتوقف علماء الطبيعة وتطبيقاتها التكنولوجية عن أبحاثهم لصالح البشر.. مع ملاحظة أنهم يستهدفون الإنسان (فى أى مكان.. ولايـُـفكــرون فى جنسيته أو ديانته) وهذا هو ما جرى عليه تاريخ الاكتشافات العلمية، فالعلماء الذين توصلوا إلى أمصال شلل الأطفال، أوالجدرى..إلخ.. والتوصل إلى البنسلين.. والتطور فى علاج السرطان وأمراض القلب..إلخ، لم يـطرحوا على أنفسهم سؤال: من سيستفيد من هذه الأبحاث؟
ومن بين الإنجازات الأخيرة التى سيستفيد منها فاقدو البصر التجارب، التى أجراها علماء صينيون وأمريكيون، بجامعة العلوم والتكنولوجيا الصينية.. ونجحتْ فى إتاحة الرؤية فى الظلام، بعد عشرة أسابيع من حقن فئران التجارب، بمجسمات (نانو) متناهية الصغر فى عيونها، لتعمل كمستقبلات للضوء للأشعة تحت الحمراء. وعندما يصل الضوء لشبكة العين، فإنها تلتقط أطول موجات الأشعة.. وتنبعث أقصر موجات ضمن النطاق المرئى.. وتمتص القرنية أقصرالموجات.. وتــُـرسل إشارة إلى الدماغ.
وقال (د. تيان شيو) العالم الصينى أنّ هذه التجربة ستشمل التطبيقات العسكرية.. وتشمل الذين يعانون من (عمى الألوان) والذين لايستطيعون تمييز اللون الأحمر.. وسوف تــُـمكن البشر من تخطى قدرات الإبصار الطبيعية (موقع سكاى نيوز1 مارس 2019 ومواقع أخرى)
هذا الإنجاز العلمى فى مجال الطب واحد من عشرات الإنجازات السابقة.. وأعتقد أنها ستستمر فى المستقبل.. كما أخبرتنا تجارب الماضى.
وعلى سبيل المثال ذكر د.فؤاد زكريا فى كتابه (التفكيرالعلمى) الصادرعن سلسلة عالم المعرفة الكويتية.. الذى نفدتْ طبعته الأولى والثانية فصدرتْ طبعة ثالثة عام 88. فى هذا الكتاب ذكر أنّ التراكمية التى يتسم بها العلم هى التى تــُـقـدّم لنا مفتاحًا للرد على انتقاد العلم.. وهو انتقاد يستغل تطور العلم فيُـتهم العلم بالنقصان. فمن الشائع أنْ يحمل أصحاب العقلية الرجعية على العلم لأنه مُـتغير.. وأنّ حقائقه محدودة، فإذا قلتَ أنّ العلم مُـتغير، فهذه حقيقة.. وإذا اعتبرتَ هذا التغيرعلامة نقص فإنك تـُخطىء، إذْ تفترض أنّ العلم لابد أنْ يكون ثابتــًـا.. مع أنّ ثبات العلم لايعنى إلاّنهايته.. ومن ثـمّ فإنّ الثبات فى هذا المجال هوالذى ينبغى أنْ يُعد علامة نقص.. وفى تأكيده على دورالعقل، طلب من أعداء العلم مقارنة المعرفة البشرية منذ 500 سنة بما هى عليه الآن، حيث أجرى بعض العلماء مقارنة بين الفترات الزمنية التى كان يستغرقها الوصول من الكشف العلمى النظرى إلى التطبيق، فتبيـّـن ما يلى: احتاج الإنسان إلى 112 سنة لتطبيق المبدأ النظرى للتصوير الفوتوغرافى. و56 سنة لاختراع التليفون و35 سنة للإتصال اللاسلكى و 15سنة للرادار و 12 سنة للتليفزيون و5 سنوات للترانزستور وسنتيْن للدوائرالمتكاملة.. وترتب على ذلك أنْ اخترع الإنسان العقل الالكترونى الذى يعود فيساعد العقل البشرى لإحراز المزيد من التقدم.. وهذا التقدم الجديد يؤدى لتطوير العقول الالكترونية.. وهكذا تستمرمسيرة التقدم.. وردّ على الذين زعموا أنّ العرب فى العصور الوسطى سبقوا أينشتين فى نظرية النسبية. فأكدّ أنه زعم واضح البطلان (لأنّ ظهور نظرية كهذه يحتاج إلى تطور معين فى العلم.. ولايمكن تفسيره إلاّ فى ضوء عصر معين فى حين كان العصر الذى ظهر فيه العلم العربى مختلفـًا كل الاختلاف)
***
والسؤال الذى يفرض نفسه هو: هل يتحقق أى إنجاز علمى فى مجتمع تسود فيه الخرافة؟
كان من رأى د.فؤاد زكريا إنّ انتشار الخرافة بين العرب والمسلمين، تعبيرعن جمود المجتمع وتوقفه عند أوضاع قديمة.. ومقاومته للتطور السريع المحيط به من كل جانب.. والفرق واضح بين هذا الأسلوب فى الفكر الخرافى.. وبين أسلوب المجتمعات الأوروبية التى مرّتْ بتجربة التفكير العقلى حتى أعلى مراتبها. أى أنّ الفرق واضح بين الفكر الخرافى حين يكون تعبيرًا عن جمود متأصل.. وتحجر على أوضاع ظلتْ سائدة طوال آلاف السنين، دون التوقف عن ممارستها أو حتى مراجعتها.. كما أشار د.زكريا إلى أنّ الكــُـتاب العرب والمصريين لازالوا يـُـردّدون نفس الحـُـجج التى يقول بها أنصار التفكير اللاعلمى فى الغرب، فى محاولة من هؤلاء الكتاب (العرب والمصريين) لكى تظل عقول العرب والمسلمين مُـغلقة.. وبالتالى لايرون التطور المذهل الذى أحدثه العلم فى العصرالحديث.
وقد حاولتْ الكنائس الأوروبية فى العصورالوسطى أنْ تسلك الطريق المحفوف بالخطر (أى معاداة العلم ومعاداة العقل والترويج للخرافة) ولكن بعد نضال العلماء والمفكرين عبـْـر أربعة قرون على الأقل، انتصر العلم وانتصر العقل.. والدليل هو انصراف جماهير الشعوب الأوروبية عن العقائد الدينية.. وبأعداد كبيرة.. مع مراعاة الصراع المرير الذى دار بين العلماء والمفكرين، وبين الكنائس فى العصور الوسطى.. حيث ارتكبتْ الكنائس العديد من الأخطاء وهى تــُـهاجم العلم والعلماء، بحجة أنّ العلم يتعارض مع النصوص الدينية..كما حدث فى قضية (دوران الأرض) و(ارتفاع السماوات) ووصل اضطهاد العلماء لدرجة الايذاء المعنوى والمادى حيث وقائع النفى أوالحبس أوالتعذيب أوالحرق.. كما حدث مع حالة العالم والمفكر الكبير(جوردانو برونو) الذى أحرقه القساوسة (الأتقياء) مع مطلع عام 1600 فى روما لأنه كان يؤكد صحة نظرية كوبرنيكوس وجاليلو عن دوران الأرض حول الشمس.. ودفاعه عن الحضارة المصرية، وأنّ سلام البشرية من الممكن أنْ يسود لو عمـّـتْ الديانة المصرية القديمة جميع أرجاء العالم، حيث أنها تأسّـستْ على (التعددية) ونبذتْ (الأحادية).
ولكن بعد هذا الصراع والنضال الذى خاضه العلماء والفلاسفة الأوروبيون.. خضعتْ الكنائس فى نهاية الأمر للتطور الطبيعى، سواء فى العلوم الطبيعية أو فى حياة البشر.. وسلوكهم اليومى فى حياتهم الشخصية. فاضطرتْ الكنائس إلى التراجع عن مواقعها واحدًا تلو الآخر، حتى أصبحتْ اليوم تدافع عن كثير من الأمور التى كان القول بها فيما مضى كافيـًـا لاضطهاد صاحبها على يد الكنيسة ذاتها.. ولكن اليوم– بعد تراجعها فى الكثيرمن الأمور- خسرتْ الكنائس الكثير من مواقعها وأخذ تأثيرها على الأجيال الجديدة يتضاءل باستمرار.
الكارثة أنه بينما تخلــّـصتْ أوروبا من الميتافيزيقا وما تــُـحدثه من أثر فى انتاج الخرافات، فإنّ العرب والمسلمين ما زالتْ عقولهم مُـتوقفة عند العصورالوسطى، ولا ترغب فى الانتقال إلى العصر الحديث.. وكأنّ ما رسخ فى عقولهم مثل الاسمنت الذى يدخل بين قوالب الطوب، ولذلك يبدو أنّ الأمل فى نهضة علمية وفكرية، أشبه بالسراب أو نوع من خداع النفس، كما يحلو للكثيرين فى الثقافة السائدة (العربية والمصرية) الترويج لهذا الخداع.
--------------------
بقلم: طلعت رضوان
من المشهد الأسبوعي