11 - 05 - 2025

ثورة برمهات 1919 بين الشعب والزعماء

ثورة برمهات 1919 بين الشعب والزعماء

دأب المؤرخون على وصف ما حدث فى شهربرمهات/ مارس1919 بأنه ثورة قام بها سعد زغلول وزملاؤه، بينما الحقيقة أنّ شعبنا المصرى هو الذى فجـّـر أحداث الثورة.. وبالرجوع إلى بداية الأحداث- كما ذكر المؤرخ عبدالرحمن الرافعى وغيره- تتبيـّـن الحقيقة واضحة ساطعة سطوع شمس بؤونة.. حيث أنّ المُـفجـّـر الحقيقى للثورة بدأ بعد رفض طلبات الوفد الذى سافر إلى لندن، برئاسة سعد زغلول وعبد العزيز فهمى وعلى شعراوى وآخرين.. وذلك للمطالبة بالجلاء عن مصر كما وعد الإنجليز لو أنّ مصر وقفتْ مع بريطانيا فى حربها ضد ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى. 

تراجع الإنجليز عن وعدهم.. وتحجـّـجوا بأنّ الوفد (برئاسة سعد) لايـُـمثــّـل الشعب المصرى.. ومن هنا بذختْ (فكرة التوكيلات) التى رحـّـبتْ بها جميع فئات الشعب (فى المدن والأقاليم - من فلاحين وعمال وموظفين وأعيان ومثقفين) ولكن الإنجليز لم يقتنعوا بتلك التوكيلات.. ولم يكتفوا بذلك.. وإنما نفوا سعد وزملائه إلى جزيرة مالطة فى 8 مارس1919، فكان هذا النفى هو الذى دفع شعبنا للخروج إلى شوارع وميادين القرى والأحياء والمدن، فى كل محافظات مصر.. ولم يقتصر خروج الجماهير على الهتافات المُـنـدّدة بالاحتلال البريطانى.. والمطالبة بجلاء جيش الاحتلال من مصر.. وإنما شمل دور الجماهير اقتحام معسكرات الإنجليز والاستيلاء على الأسلحة.. وكذلك نزع قضبان السكة الحديد.. وبصفة خاصة فى الخطوط التى يستخدمها الإنجليز فى نقل أسلحتهم ومعداتهم..إلخ، بل إنّ الأمر وصل لدرجة إقامة (جمهورية مستقلة) كما حدث فى إقليم زفته بمحافظة الغربية.. حيث تـمّ إعلان (جمهورية زفتى المستقله) وكان وراء تلك الفكرة الماركسى (يوسف الجندى) المحامى وشقيقه (عوض الجندى) إلى آخر تلك الأحداث المذكورة فى الكتب التى أرّختْ تلك الفترة من تاريخ مصر. 

***

فى ضوء ما تقـدّم يتبيـّـن أنّ شعبنا المصرى هو مُـفجـّـر ثورة برمهات/ مارس 1919 وليس سعد زغلول.. ولا باقى أعضاء الوفد.. ولعلّ أدق تأكيد على ذلك أنّ الحزب الذى تكوّن وعـُـرف باسم (حزب الوفد) كان بسبب الوفد الذى ذهب إلى لندن ونفى زعمائه.. وما تلى ذلك من خروج الجماهير..وبدء أحداث الثورة.

***

الملحوظة الثانية أنّ ثورة برمهات كانت (ثورة وطنية علمانية) وقد يندهش البعض من هذا التعبير.. ولكن تأمل مجمل أحداث الثورة وتطورها، يؤكد ما أذهب إليه وأعتقد بصحته.. ومن بين أدلة ذلك 1- المظاهرات شملتْ شعبنا (كله) بغض النظرعن ديانة المتظاهرين.. حيث تظاهر المسيحيون بجانب المسلمين 2- إنّ خروج شعبنا- بهذا الشكل العفوى والحضارى- معناه أنّ مبعثه الانتماء الأول والأصيل يكون على أرضية (الولاء للوطن) وأنّ (الولاء للدين) يأتى فى المرتبة الثانية 3- وقد عبـّـر بديع خيرى عن ذلك المعنى فى الأغنية التى غناها سيد درويش.. والشعب يـُـردّد وراءه: اللى تجمعهم أوطانهم..عمرالأديان ما تفرّقهم. 

***

ولعلّ ما حدث فى 1919 يعود بجذوره إلى تسع سنوات حيث أنه فى عام 1910 حدث اغتيال بطرس باشا غالى (رئيس النظار) وكان القاتل شاب متطرف دينيـًـا (إبراهيم الوردانى) فتظاهر أمثاله من المتطرفين وردّدوا شعارًا دينيـًـا ((تسلم يمن الوردانى اللى قتل بطرس النصرانى)) ولكن لأنّ شعبنا (بالرغم من أنّ الحركة الثقافية لم تكن بالنضج الكافى لتــُـرسّـخ فيه معنى التعددية) ومع ذلك خرجت مظاهرة عفوية قال فيها أصحابها ((تسلم إيد الوردانى اللى قتل بطرس البريطانى)) أى أنّ الاغتيال كان لأسباب (وطنية) وليست (دينية) كما زعم الإسلاميون.

كان هذا الدرس فى وجدان وعقل الحركة الوطنية لثواربرمهات/ مارس1919، ولذلك لم ينزلقوا إلى أية شعارات أو نزعات (دينية) فعندما تقرّر اغتيال يوسف باشا وهبى، الذى وافق على التعاون مع الإنجليز (بأنْ يتولى منصب رئيس الوزاء، بعد أنْ رفض معظم الساسة المصريين التعاون مع الإنجليز بعد ثورة 1919) آ لذلك تولى مهمة محاولة الاغتيال الشاب (عريان يوسف سعد) الطالب بكلية الطب.. وبذلك يكون الفاعل (مسيحى) والمُـستهدف (مسيحى مثله) وبالتالى يكون قد تـمّ سد الباب أمام الإنجليز فلا يستغلون الحادث على أنه (نزاع دينى بين المسلمين والمسيحيين).

ووفق صياغة لويس عوض الثاقبة، فإنّ يوسف باشا وهبه الذى عيـّـنه الإنجليز عام 1883 ليكون سكرتير لجنة التحقيق مع العرابيين، اختاروه عام 1919 ليقضى على ثوار تلك الثورة الشعبية العظيمة (أوراق العمر- مكتبة مدبولى- عام1989- ص122، 123) وذكر أنّ والده قال له إنّ الإنجليز حاولوا تطبيق (سياستهم الشهيرة: فرّق تسد التى طبـّـقوها مع أصحاب النزعات الدينية الإسلامية فى الهند..ونجحوا فى تقسيم الهند بولادة دولة مُـشوّهة أطلقوا عليها: باكستان) ولكنهم فشلوا فى مصر. 

وعن ثورة برمهات العظيمة ذكر عبدالرحمن الرافعى دور الفلاحين الذى كان أحد أسباب نجاح الثورة.. ووفق نص كلامه كتب ((لم يكن أحد يتوقــّـع أنْ يهب الفلاح المصرى (الموصوف بالسذاجة والبعيد بفطرته الطبيعة عن غمار السياسة وعواصفها) أنْ يهب.. ويكون فى الصفوف الأولى.. وتصل وطنيته لدرجة خلع قضبان السكة الحديد.. وقطع المواصلات.. وبذل روح الفداء من أجل الوطن)) وذكرأنه من بين مظاهر الثورة، اشتراك المرأة المصرية- سواء بالكتابة فى الصحف أوببذل الروح والدماء والمال)) (عبدالرحمن الرافعى- فى كتابه: مصر المجاهدة فى العصرالحديث- دار الهلال- ط3- عام1990- ص132، 133)

ولعلّ ما حدث فى برمهات/ مارس 1919هو الذى فجـّـر طاقات الموهبة الإبداعية الكامنة، داخل وجدان وعقل المُـبدع الموهوب (سيد درويش) فأبدع الأغانى التى لازال شعبنا يـُـردّدها بالرغم من مرور 100 سنة على تأليفها وتلحينها.. وقد حالفه الحظ بصحبة الشعراء الوطنيين.. وأصحاب الموهبة، أمثال (بديع خيرى) الذى كتب له معظم أغانيه الوطنية (بلادى بلادى لك حبى وفؤادى- نموذجـًـا) والشعبية/ التراثية (الحلوه دى قامت تعجن فى الفجريه- نموذجـًـا) والعاطفية (زورونى كل سنه مره- نموذجـًـا) 

فى ضوء ما تقـدّم تتأكد حقيقة دورشعبنا فى ثورة برمهات/ مارس1919، وليس دور الزعماء.. ولعلّ ذلك ما يـُـفسّـر دور بريطانيا فى تكوين ودعم جامعة إسلامية والتبرع بمبلغ 500 جنيه (بسعر عام 1928) لتكون فى مصر(جماعة الإخوان المسلمين) لوأد أية حركة شعبية.. وضد أية (ثورة جماهيرية) وبناءً على ذلك قرّر الإنجليز أنه لايجوز تكرار ما حدث فى برمهات/مارس 1919.
------------------------
بقلم: طلعت رضوان

مقالات اخرى للكاتب

أين الدول العربية من التنافس الأمريكى الروسى؟