مساء أمس الأول الجمعة، دعا الرئيس السودانى عمر البشير برلمانه إلى «تأجيل النظر فى التعديلات الدستورية المطروحة عليه» والتى كانت تستهدف السماح له بالترشح مجددا فى الانتخابات الرئاسية المقررة فى العام المقبل، وهو ما يعنى عمليا تراجعه عن الترشح فى الانتخابات، كما قرر حل الحكومتين «المركزية والولايات» وتشكيل حكومة كفاءات جديدة.
وأعلن البشير فرض حالة الطوارئ لمدة عام، وتعهد بإجراء «تحقيقات شفافة حول القتلى الذين سقطوا خلال الاحتجاجات»، وطالب المحتجين بـ«الجلوس على طاولة الحوار لتجنيب البلاد المصائب».
اعترف الرئيس السودانى فى الكلمة التى ألقاها عقب اجتماعه مع قادة حزبه الحاكم، بالمطالب المشروعة للشباب الذى يخرجون فى مظاهرات حاشدة منذ ديسمبر الماضى طالبوا فيها بإنهاء حقبة البشير التى استمرت لثلاثة عقود، وأوضح أن «الاختيارات الصفرية والعدمية لن تحل الأزمة»، مشيرا إلى «أهمية الحوار من منطق لا غالب ولا مغلوب».
القرارات التى أعلنها الرئيس السودانى، جاءت فى ظل احتجاجات شبه يومية انطلقت فى مدن الجارة الجنوبية قبل شهرين بسبب زيادات فى الأسعار، لكنها تطورت سريعا إلى المطالبة بتنحى البشير عن الحكم، رافعة شعار «تسقط بس».
سقط فى تلك المظاهرات وفقا لتقارير إعلامية سودانية نحو 60 مواطنا، إثر استخدام قوات الأمن للقنابل المسيلة للدموع وللذخيرة الحية، كما أُلقى القبض على المئات من المحتجين والمعارضين.
حاول الرئيس السودانى خلال الشهرين الماضيين المراوغة، واتهم قوى خارجية بالتآمر لإسقاط الدولة السودانية، وهاجم «المندسين» الذين يتربصون بأمن واستقرار السودان الذى بلغت نسبة التضخم فيه إلى نحو 70%، وتراجعت سعر عملته، ليصل سعر الدولار إلى 90 جنيها فى بعض التعاملات.
الصحافة السودانية نقلت صباح الجمعة عن مدير المخابرات السودانية صلاح عبدالله قوش، أن حزب المؤتمر الوطنى الحاكم سيبحث عن مرشح آخر غير البشير فى انتخابات الرئاسة القادمة، وأنه سيعاد هيكلة مؤسسات الدولة وعلى رأسها «الرئاسة».
الحراك الشعبى الذى استمر أكثر من شهرين، أجبر البشير على التراجع ووقف عجلة تعديل الدستور ليحول دون ترشح رئيس تولى السلطة إثر انقلاب قاده فى 1989 لفترة جديدة، ودفعه إلى الاعتراف بمشروعية مطالب الشباب ودعوتهم إلى الحوار.
خطوات البشيرة جاءت متأخرة، بعد أن سالت دماء المحتجين السلميين وتدهورت الأوضاع، لكن أن تأتى متأخرا خير من ألا تأتى أبدا.
لا أعرف ماذا جرى فى الشارع السودانى بعد كتابة هذه السطور فى وقت متأخر من مساء الجمعة، وكيف استقبل الشارع الغاضب تلك الإجراءات، لكن يبدو أن الأمور فى طريقها إلى إعلان نهاية حقبة البشير السوداء.
بالتزامن، وفى ذات الجمعة خرجت فى الجزائر مظاهرات حاشدة، للاحتجاج ضد ترشح الرئيس بوتفليقة لولاية خامسة فى الانتخابات المقرر لها إبريل المقبل، واقترب المحتجون من القصر الرئاسى رغم محاولات قوات الأمن منعهم وتفريقهم.
الشعب الجزائرى بدأ رحلة إنهاء حكم رئيس تسلم السلطة فى 1999، وتشبث بها رغم قضائه ولايته الأخيرة على كرسى متحرك، بعد إصابته بجلطة دماغية فى 2013 أثرت على قدرته على الكلام.
لم يضمن الاستبداد والقمع وحصار الحريات وإغلاق منافذ التعبير وتركيز السلطة فى يد شخص أو مؤسسة رغما عن إرادة الشعوب أو بالتلاعب فى قواعد اللعبة، لأى نظام الاستقرار، النتائج كما أثبت التاريخ البعيد والقريب كارثية على طول الخط.
تخيلوا معى، ماذا لو قضى أى رئيس فترته المحددة بنصوص الدستور ورحل، سواء تمكن من تنفيذ ما وعد به فى برنامجه الرئاسى أو لم يتمكن؟.. ماذا لو سُمح للأفكار أن تتبارى فى الفضاء العام وطُرحت على الجمهور دون قيد أو حصار؟.. ماذا لو تنافست الأحزاب والقوى على تقديم حلول للأزمات والمشكلات وقدمت برامجها على الجمهور وأصبح للشعب القول الفصل فى اختيار من يحكم ومن يراقب ومن يشرع؟.. ماذا لو أيقن كل مسئول أنه سيسأل عن أدائه وعن اختياره لمعاونيه أمام جهات الرقابة والقضاء؟.. ماذا لو أصبحت نصوص القانون والدستور هى المرجعية للعلاقة بين مؤسسات الدولة وبين الناس؟
ظنى أن البشير وبوتفليقة ومن قبلهما بن على ومبارك والقذافى وصالح، لو تخيلوا نهاياتهم لاختاروا الرحيل طوعا عن السلطة وفقا للمحددات التى تعقدوا عليها مع الناس، ولكان كل منهم الآن يقضى فترة تقاعده يلعب مع أحفاده أو يستمتع بالسفر أو الجلوس على البحر، لكنها السلطة.. لعنها الله.
-------------------
بقلم: محمد سعد عبد الحفيظ