تخطت رائعة استاذنا توفيق الحكيم (عصفور من الشرق) حدود سرد قصة شاب مصرى سافر لدراسة الحقوق في باريس إلى جدلية العلاقة بين الشرق والغرب. ينزل محسن مدينة النور حاملاً لوازمه في حقيبته وعادات وتقاليد مجتمعه في عقله. يتعرف على سوزى بائعة التذاكر بأحد المسارح. يجذبه جمالها. بشرتها الرخامية. عيناها الفيروزيتان، وأنفها الفرنسى، صغير من غير إفراط، ترتفع مقدمته قليلاً، كأنما رفعته بسبابتها. يكتشف الفتى الهوة الهائلة بين الجانبين. غرب يتقدم متناسياً الجوانب الروحية وشرق يتأخر بتفسيرات مشوهة حولت الدين إلى حواجز أمام التقدم. يقع الفتى بين إشكاليتين، التمسك بالجذور والرغبة في التقدم. ثنائية، رغم قِدمها، ترفض الرحيل عن المشهد.
على درب محسن، هاجر مصطفى سعيد بطل رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للسودانى الطيب صالح إلى انجلترا للدراسة، فيتفوق ويعمل محاضراً بأحد الجامعات، ويتبنى، بخلاف محسن، قيم المجتمع الغربى ولا يتقبل، في نفس الوقت، تصرفات زوجته، الإنجليزية الشقراء، جين موريس، يهيم بحبها ويرفض طباعها الغربية، فيقتلها فى ساعة ثورة. يخرج من السجن حاملاً خيباته وانكساراته عائداً إلى السودان. يقيم فى قرية بعيدة عن بلدته حتى لا يعرفه أحد ويعيش كفلاح بسيط، مخفياً ثقافته وشهادته ولغاته حتى عن زوجته، وتتوالى الأحداث ويختفى مصطفى أثناء سباحته فى النيل. أمام يقين الجميع بأنه سباح ماهر، تثور أسئلة بلا إجابات. هل عبر للشاطئ الآخر؟. هل غرق؟، هل أسلم نفسه للنهر؟، لا أحد يعلم. ليتركنا الكاتب أمام نهاية مفتوحة.
لا تختلف نهاية رواية (مقتل بائع الكتب) للكاتب العراقى سعد محمد رحيم عن سابقتها. يكلف صحفى متمرس، ذو سمعة طيبة، من قِبل أحد النافذين ببحث أسباب مقتل محمود المرزوق، بائع الكتب العجوز في مدينة بعقوبة القريبة من بغداد العاصمة. بعد سلسلة من المقابلات والاتصالات والأحداث ينحسر الغموض عن شخصية القتيل. مثقف اضطهدته السلطات العراقية مرارًا في الستينات. تَصدر اسمه قوائم المعتقلين والمعرضين للحبس عقب كل زوبعة، ولو في فنجان. يهاجر إلى لندن، ومنها إلى باريس، مع المرور بتشيكوسلوفاكيا. يترك في كل بلد لوحاته وخيباته. آماله وإحباطاته. يكرر وبجدارة، نموذج الجنوبيين المفتونين بالشمال. الباحثين عن نجاحات بعد ما أعيتهم أرض صوان لا تنبت بذور الأمل فوق صخورها. يعود المرزوق إلى بعقوبة حالماً بإنشاء دار نشر ومعرض دائم للوحات فينتهى به الحال إلى بائع كتب يدفن هزائمه المتجددة كل ليلة فى الخمر.
كهل تخطى السبعين تتمدد جثته في الشارع. تعاين الشرطة المكان وتقيد الحادث ضد مجهول، مثله مثل عشرات الحوادث التى اعتادتها بغداد بعد سقوطها، شباب يقتلون دونما سبب، فقط مقابل حفنة دولارات، ليظل السبب مجهولاً، حتى بعد القبض على القاتل.
عصافير الشرق في روايات ثلاث، في الأولى يحاول محسن عبثا إيجاد حل توافقى بين الحضارتين. في الثانية، يندمج مصطفى في المجتمع الإنجليزي ويرفض تطبيق تقاليده في بيته، فيعود إلى موطنه ويذوب في النيل. في الثالثة، يعيش المرزوق في مدينتى محسن ومصطفى وتتكرر انكساراته فيعود بحلم مبعثر ويُقتل دون ما سبب. روايات مصرية وسودانية وعراقية، يربطها جميعاً محاولات جذب ضفتى الحضارتين، الشرقية والغربية، إلى بعضهما البعض. ربما كان البحر المتوسط رمزاً لعمق الفجوة واتساعها بين الجانبين، ولكن هيهات هيهات أن يجف المتوسط، أو أن تقف متزناً غارساً أحد ساقيك في الشمال والأخرى في الجنوب بينما تتطلع بعينيك نحو النجوم.
----------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]