ابتليتْ الشعوب العربية بالحـُـكام الذين (آمنوا) بمنظومة الحكم التى كانت سائدة طوال عصورالخلافة الإسلامية، وهى منظومة لاتعرف آلية (تداول السلطة) وإذا احتجّ أحد بأنّ تداول السلطة من منجزات العصرالحديث.. ولم تعرفه العصور الوسطى بما فى ذلك أوروبا.. وإذا كان هذا صحيحـًـا، فلماذا استمرتْ منظومة (تأبيد السلطة) حتى القرنيْن العشرين والحادى والعشرين؟ أليس هذا معناه أنّ عقلية الحـُـكام المُـعاصرين، امتداد لنفس عقلية الخلفاء المسلمين؟ وأليس ذلك معناه ربط (تأبيد الحكم) بالاستبداد السائد فى الدول العربية؟
ومن بين غرائب أنظمة الاستبداد العربية آفة (حب الجلوس على كرسى السلطة) ووصل هذا الهوس لدرجة أنّ الجالس على عرش الدولة الجزائرية (عبدالعزيز بوتلفيقة) الذى سيطرعلى دولة الجزائرمنذ عام 1999، فى ظرف تاريخى يستحق التأمل.. والتوقف أمامه.. حيث انسحب جميع المرشحين المتنافسين على انتخابات الرئاسة عام1998.. وكان أبرزهؤلاء المنافسين (حسين آيت أحمد) و(أحمد مولود حمروش) وآخرين، أما سبب انسحابهم فهو الدليل المؤكد على (بداية مرحلة من الحكم المُـطلق) وذلك عندما تأكدوا من مساندة وتأييد الجيش له، ضد باقى المرشحين.. وبالفعل فازعندما ظهرتْ النتيجة عام 1999، بالرغم من تدنى شعبيته، خاصة وسط الشباب.. وبدأتْ الولاية الثانية عام 2004.. وفى عام 2005 داهمه المرض فسافر إلى فرنسا للعلاج.. وفى عام 2007 تعرّض لمحاولة اغتيال (فى عمل انتحارى) أسفرعن قتل 15 و 71 جريحـًـا، بينما المُستهدف ظلّ على قيد الحياة.. وبدأتْ ولايته الثالثة فى عام 2009 والولاية الرابعة فى عام 2014.
وبالرغم من ظروفه الصحية المُـتدهورة، لدرجة أنه يجلس على كرسى متحرك منذ عام 2013، فإنه لازال يتمسك بكرسى العرش وهوعلى مقعدة الكرسى المتحرك.. ولعلّ هذا ما جعل الأحداث تتصاعد (دراماتيكيا) كما حدث يوم (22فبراير2019) أثناء صلاة الجمعة.. حيث رفض المصلون استكمال الصلاة، بعد أنْ بدأ خطيب المسجد فى مدينة بجاية يتكلم عن ضرورة انتخاب الرئيس بوتلفيقة، وذكر أنه ((هوالرئيس المسلم الذى يرعى حقوق المواطنين الجزائريين، بالتطبيق لشرع الله) فكانت المفاجأة (غيرالمتوقعة) أنّ المصلين (ودون اتفاق مسبق) قاطعوا الخطيب وبدأوا فى الخروج من المسجد، اعتراضـًـا على تملق الخطيب للحاكم المستبد.. وتدخل الدين فى السياسة.. وأنّ الدعاية لرئيس الدولة لاتجوز فى أماكن دور العبادة.. وبعد هذا المشهد إذا بالتطورالدراماتيكى الثانى، وهو خروج آلاف الجزائريين فى مظاهرات صاخبة، حيث أعلنوا رفضهم تجديد ترشح الرئيس المستبد القعيد ورفعوا لافتات عليها ((لا للولاية الخامسة)) و((لا للعار والهوان)) و((الجزائر وسط الجحيم..وأنت وأمثالك تلعبون بالنار))
***
ذكــّـرنى تمسك بوتلفيقة بالسلطة (بغض النظر عن مرضه) بكل الحــُـكام المُـستبدين الذين لايـُـراعون شعوبهم ويستنزفونهم.. كما هو الوضع السائد فى كل أنظمة الاستبداد.. وبصفة خاصة الأنظمة العربية والإسلامية.. وقد انتقلتْ العدوى إلى مصر بعد يوليو 1952 حيث يظل الرئيس على كرسى السلطة.. ولايغادره إلاّ مرغمًـا (بالموت الطبيعى أو بالسم كما ذكر البعض- عبدالناصر نموذجـًـا) أو بالتصفية الجسدية (السادات نموذجـًـا) أوبانتفاضة شعبية (مبارك نموذجـًـا) وإنْ كان الأخير (تنازل) عن السلطة فهوتنازل يحمل فى طياته استمرار تواجده، الذى أخذ عدة مظاهر منها - على سبيل المثال- دخوله قاعة المحكمة على كرسى متحرك أوعلى نقالة- وهذا لايكون إلاّ فى حالة من اثنتيْن: الشخص المُـصاب بشلل كلى، أوالسيدة حديثة الولادة بعد عملية قيصرية.. ومطلوب حضورهما جلسة المحاكمة.. وأنّ هذيْن الاستثناءيْن الذي نصّ عليهما قانون الاجراءات لاينطبقان على مبارك.. ولكن نظرًا لأنّ المجلس العسكرى هو الذى سيطرعلى الانتفاضة.. فقد أفرغها من مضمونها الثورى.. ومن أهداف التغيير الجذرى لبنية السياسة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بعد 60 سنة من سيطرة الضباط على مُـقـدّرات شعبنا المصرى.. ووأد أية فرصة لتقدمه (وهوالوأد الذى شمل كافة المجالات التنموية والعلمية والتكنولوجية.. وكان على رأس عمليات الوأد قمع الحريات بكل أشكالها)
ومما يؤكد وجهة نظرى تأمل صياغة البيان الذى ألقاه عمر سليمان.. حيث نصّ على ((قرّر الرئيس محمد حسنى مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية.. وكلــّـف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شئون البلاد))
هذه الصياغة كتبها أستاذ - أوأساتذة- ضالعون فى (علم بقاء الوضع على حاله) وبغض النظر عن إزدواجية الخبث والذكاء فى تلك الصياغة، فإنّ هذا البيان تضمن مخالفتيْن دستوريتيْن، الأولى: أنّ مبارك بعد 18 يومًـا فى ميادين مصر بالهتاف بسقوطه، لم يعد هو (الرئيس) كما جاء فى البيان. المخالفة الثانية: أنه وفق نص دستور سنة 1971 - السارى حتى كتابة البيان- فإنه فى حالة المرض أوالاضطرابات الشعبية أوالمناخية- يكون الرئيس المؤقت للدولة: رئيس المحكمة الدستورية أو رئيس مجلس الشعب.. وبتطبيق هذا النص الدستورى على بيان عمر سليمان، تبدو حقيقة ملعوب (علماء قهرالشعوب) وينطبق عليه- بالحرف وبكل دقة- ما تـمّ تداوله بعد صدور وعد بلفورالإنجليزى الذى (وهب) فلسطين لليهود لإقامة دولتهم: من لايملك أعطى لمن لايستحق.
***
وبالرجوع إلى الحالة الجزائرية وانتفاضة الشعب السودانى ضد طغاة السودان، نجد أنّ بوتلفيقة وأتباعه.. والبشير وحوارييه.. ومعهم كل الانتهازيين (من سياسيين وإعلاميين) لايـتــّـعظون مما حدث للقذافى وصدام وعلي عبدالله صالح.. إلى آخر قائمة الطغاة الذين يتصوّرون أنهم سيحملون كراسى السلطة.. وسبائك الذهب.. وحقائب المال معهم إلى مقابرهم. بينما شعبنا الأمى جمع حكمته- والأدق فلسفته- فى جملة من كلمتيْن وأداة نفى، لخـّـص فيها: حكمة الموت ومغزاه، فى ضفيرة واحدة مع أقصى تعبير عن الزهد فى متع الدنيا الزائلة، حيث قال: الكفن مالوش جيوب.
---------------------------
بقلم: طلعت رضوان