12 - 05 - 2025

من يحمى الدستور؟ الشعب أم الجيش؟

من يحمى الدستور؟ الشعب أم الجيش؟

فى عام 1975 أصدرالسادات قرارًا بتعيين إحسان عبد القدوس رئيسـًـا لمجلس إدارة الأهرام، واستمرإحسان فى منصبه، إلى أنْ اشتد الخلاف (فى الآراء السياسية) بينهما عام 1976.

وبالرغم من هذا الموقف الإيجابى من الرئيس السادات تجاه إحسان، فإنّ ضميره وإيمانه بمسئولية الكلمة، جعلاه ينتقد السادات عندما يـُـصدر قرارًا أو يـُـصرّح برأى، يرى فيه إحسان أنّ الرئيس قد جانبه فيه الصواب.. ومن أمثلة ذلك عندما صرّح السادات فى خطاب علنى بأنّ القوات المسلحة (هى المسئولة عن حماية الدستور)

رأى إحسان أنّ ما قاله السادات يـُـشكل مخالفة دستورية من ناحية، ويقضى على الديمقراطية من ناحية ثانية، ويـُـهـدّد سلامة الوطن من ناحية ثالثة، ونظرًا لأنّ إحسان كان من أنصار (المواقف العملية) بمعنى أنه لايكتفى بالاعتراض (فى صمت وبينه وبين نفسه– كما يفعل كثيرون) ولكنه كان يمتلك شجاعة التعبير عن رأيه بالكتابة، لتصل رسالته إلى الشعب، ولذلك كتب مقالا فى صحيفة الأهرام بتاريخ 19 مارس 1976 بعنوان (تساؤلات حول خطاب الرئيس) قال فيه:  

عندما تحدث الرئيس عن القوات المسلحة قال إنها: (أحد عناصر تحالف قوى الشعب، ولكن لاشكّ أنّ لها وضعها الخاص) فكان تعقيب إحسان ((وفى حدود هذا الوضع الخاص، يقتصردورالقوات المسلحة على أمر واحد، بالغ الأهمية والقيمة، وهو حماية الدستور والشرعية الدستورية.. ولكن كيف تقوم القوات المسلحة بحماية الدستور؟ فهل معنى ذلك أنْ تتدخل القوات المسلحة سياسيـًـا فى تصرفات السلطة التنفيذية، حتى تطمئن دائمًـا إلى أنها تصرفات دستورية؟ 

وفى فقرة تالية تساءل: ما هى حدود حماية الدستور؟ ومن الذى يأمر أويطلب من القوات المسلحة أن تحكم مصر؟ ثم أسهب إحسان بحسه الإنسانى وموهبته الإبداعية فشرح مخاوفه حول كلام الرئيس السادات، فقال: إنّ الخوف على الدستور لا ينحصر فى الانقلابات العسكرية (فقط) وإنما الخوف على الدستورعندما يكون تحت وصاية أو حماية القوات المسلحة، التى تفرض إرادتها بل و(رؤيتها ومفهومها الخاص لدور الدستور) وبالتالى فإنّ الوضع السليم– كما فى الأنظمة الديمقراطية– فإنّ مهمة الجيش حماية الدستور من محاولات التفسير المغلوط والمتعمّـد لبعض مواده، لصالح أغراض شخصية لبعض فئات المجتمع.. وحيث أنّ أفراد القوات المسلحة، هم ضمن قوى الشعب، لذلك فإنّ مهمة الجيش هى حماية الدستور من أى تلاعب، يؤدى إلى الضرر بمصالح الشعب.  

وفى فقرة أخرى قال: إنّ دور القوات المسلحة هو(فقط) حماية كيان الدولة القائم على الشرعية الدستورية، وعلى الديمقراطية التى تعبر عنها مواد الدستور، كما أنه من المهم التركيز على أنّ الدستور- كما فى الأنظمة الديمقراطية– يفرض على الجيش حماية الوطن من أى عدوان خارجى.. وفى  نفس الوقت حماية الوطن من أى انهيار داخلى..وأنّ هذيْن الهدفيْن النبيليْن (حماية الوطن من أى عدوان خارجى، وحمايته من الانهيارالداخلى) هما من أسمى معانى الدساتير فى العصر الحديث.  

وفى أحداث سبتمبر 1981 عندما أمرالسادات بالقبض على أكثر من 1563 إنسانــًـا مصريــًـا (من شتى الاتجاهات السياسيةـ والميول الفكرية– وأيضـًـا من مختلف الأعمار- شباب وشيوخ- ومن رموز ونجوم الوسط الثقافى والصحفى والسياسى) وكان محمد (ابن إحسان عبدالقدوس) ضمن المقبوض عليهم.. ونظرًا لأنّ معظم المثقفين والمبدعين والصحفيين كانوا يعلمون، بحقيقة العلاقة القديمة التى ربطتْ بين إحسان والسادات، لذلك اتصل بإحسان أكثر من صديق واقترحوا عليه الاتصال بالسادات من أجل الإفراج عن ابنه، ولكن إحسان رفض, فقالوا له: طيب على الأقل اطلب من السادات أنْ يأمر بمعاملة ابنك معاملة خاصة، وأيضا رفض إحسان وقال  (كما ذكر لابنه بعد الإفراج عنه– وكما جاء فى الكتاب الذى أعده الابن عن والده) أقوى كلمات ممكن أنْ تقال فى مناسبة كهذه من أب (المفترض أنه خائف ومتوجس من المصير المنتظر لابنه وهو فى المعتقل) وبالرغم من ذلك واتته الإرادة الصلبة وقوة الاعتزاز بالنفس والتمسك بمبادئه فقال لأصدقائه (أبدًا لن أتذلل للسادات، أنا عندى كرامة وأحرص عليها، وابنى نفسه يرفض أى موقف فيه ضعف). 

وعندما تقابل السادات مع إحسان (بعد عدة أسابيع من اعتقال محمد) دافع إحسان عن ابنه، الذى من حقه التعبيرعن آرائه وعن مواقفه السياسية (حتى ولو تعارضت وتناقضت مع آراء الأب، خاصة وأنّ اتجاهات الابن وميوله نحو جماعة الإخوان المسلمين.. وإقامة الدولة الدينية، بينما اتجاهات الأب وميوله نحوالفكر الليبرالى والدولة المدنية) كما رفض إحسان كتابة كلمة واحدة فى صحيفة الأهرام.  

وجاءت فرصة اللقاء بين السادات وإحسان، الذى رفض أنْ يستغلها إحسان. كانت المناسبة أنّ إحسان تلقى دعوة لحضور اجتماع المجلس الأعلى للصحافة، حيث كان عضوًا به، ومع ذلك تردد كثيرًا وهو يفكر فى تلك الدعوة: هل يذهب؟ أم يعتذر.. وبعد مناقشة مع السيدة الفاضلة زوجته وشريكة عمره، والمطعونة بغياب ابنها عنها وخوفها من نتيجة اعتقاله، قرّر إحسان– على مضض– الذهاب وحضور اجتماع المجلس الأعلى للصحافة.. وعندما ذهب تعمّـد الجلوس فى الصف الأخير. وعندما حضر السادات ليرأس الاجتماع، فماذا حدث؟ الذى حدث – كما ذكرإحسان وهو يحكى لابنه – قال إحسان: (لاحظتُ أنّ نظرات السادات مصوّبة إلى شخصى، طوال مدة الجلسة.. ولم يرفع عينيه عنى.. وقد التزمتُ الصمت الكامل.. ورفضتُ توجيه أى سؤال أوطرح أية مداخلة (كما كنت أفعل فى الجلسات السابقة) وبعد انتهاء الجلسة تنفستُ الصعداء وأحسست بالراحة، لكننى فوجئتُ بما لم أكن أتوقعه. حيث أنّ السادات لم يخرج من الباب الرئيسى، الذى دخل منه.. ولا أدرى ما الذى دفعه إلى الخروج من الباب الجانبى، حيث كنت أجلس.. وهكذا تقابلنا– وجهـًـا لوجه- وبمجرد أنْ تصافحنا قال لى: هل يعجبك ما فعله ابنك؟ ابنك إنسان متطرف. 

فكانت إجابتى عليه: لقد رفضتُ أنْ أحدثك بشأنه. ابنى كبير.. وعنده 34 سنة.. وأنا واثق أنه قادر على أنْ يتحمل مسئولية نفسه.. وإحنا فى شبابنا كنا بنعمل زيه. إنت ناسى يا ريس إنك إتسجنت فى شبابك؟ ولم يرد السادات بكلمة.. وأعتقد أنّ الله قد وفقنى فى هذه الإجابة.. ولكن الشيىء العجيب (والمقزز) من صحفيين معروفين بتملقهم للحكام (فى كل العصور) حيث شوّهوا كلامى، وزعموا– بالكذب– أننى قلت للرئيس: لقد حذرت ابنى كثيرًا من التطرف، فلم يرتدع..وأقسم بالله أنّ هذا الكلام لم ينطق به لسانى. 

وهنا لابد من الربط بين الموقف الذى صمّـم عليه إحسان وتمسك به، حينما رفض الاتصال برئيس الدولة  للإفراج عن ابنه، وموقف السيدة الفاضلة (روزا ليوسف– أم إحسان) التى رفضتْ اقتراح أصدقائها المُـقرّبين بأنْ تتصل بالنقراشى باشا (وهو صديقها) من أجل الإفراج عن ابنها سنة 1945، بعد نشر مقاله الشهير ضد السفير البريطانى فى مصر.. وقالت قولتها الشهيرة: ابنى إنسان ناضج وصحفى ملتزم بحب الوطن والدفاع عنه، وعليه أنْ يتحمّـل مسئولية قناعاته.. وتكرّر نفس موقف تلك السيدة الجليلة والنبيلة، عندما رفضتْ اقتراحات ونصائح أصدقائها المُـقرّبين، الاتصال بالرئيس جمال عبدالناصر من أجل الإفراج عن ابنها إحسان، الذى كان معتقلا فى السجن الحربى، عام 1954 بسبب مقاله الشهير (الجمعية السرية التى تحكم مصر) وأيضـًـا رفضتْ الاتصال بجمال عبدالناصر، وقالت قولتها الشهيرة : كيف أطلب من رئيس الدولة، الذى أمر باعتقال ابنى الإفراج عنه؟ وإذا كان سيستجيب لطلب الأم، فلماذا اعتقله من الأصل ؟ وما هى جريمة ابنى ؟ هل أصبح التعبير عن رأى الكاتب– أى كاتب– جريمة توجب الاعتقال؟ وأنا أعلم أنّ ابنى يرفض أنْ أستخدم هذا الأسلوب مع المسئولين، وعلى ابنى أنْ يتحمّـل مسئوليةقناعاته.. كما أنّ سلوك ابنى هو ما أتمناه ليكون سلوك كل من يعمل بالصحافة، وتحقيق رسالتها السامية الشريفة.
--------------------
بقلم: طلعت رضوان

 

مقالات اخرى للكاتب

أين الدول العربية من التنافس الأمريكى الروسى؟