فى رائعتها "يافا ... حكاية غياب ومطر"، كتبت نبال قُندُس (لكل مدينة يا صديقى مطرها الخاص الذى يميزها عمن سواها، لكل مدينة شوارعها، صباحاتها، ياسمينها، رائحتها، وعشاقها المبللين بعطر السماء. لكل مدينة طقوسها الخاصة باستقبال الضيوف، وتوديع المسافرين).انتهى. فى المجموع، تتشكل بصمة المدن بانصهار تراثها، معتقداتها، ثقافاتها، أديانها، مذاهبها، عاداتها، تقاليدها، أساطيرها، علمها، حتى جهلها. خليط يُسَوى فى بوتقة المكان على نار الزمان. تَفَاوت النسب يضمن بصمة فريدة لا تتكرر. قد تخدعك بعض المدن بتشابهاتها، لكنها أبداً لا تتماثل.
(شو بدك تسمع)، سألنى سائق التاكسى في بدء الرحلة من الفندق المطل من أعلى ربوة بمدينة ضِبَية اللبنانية إلى مطار رفيق الحريرى ببيروت. (هُون ما بيصير غير صوت فيروز)، أجبته مجتهداً محاكاة لهجته اللطيفة. عكست مرآة السيارة اتساع عينيه سعادة ورضا. انساب صوتها هادئاً، رقراقاً، فعزلنا عمن حولنا. (لبيروت من قلبى سلامٌ لبيروت وقُبلٌ للبحر والبيوت)، تسرب صوتها في حنايانا فشملتنا السكينة وعمنا الأمان.
تستيقظ بيروت كل صباح على قُبلات يطبعها موج البحر على خد الشاطئ، يوقظه من سُباته العميق، لا يذكر البحر كم مرة حاول موجه تجاوز الشاطئ وعاد مخذولاً، فلا البحر مَلّ ولا الشاطئ انحسر. على الكورنيش، تختلط الأصوات، صبايا وشباب، نساء ورجال ينهمكون فى رياضتهم الصباحية. تتداخل الأصوات والتعليقات. زخات مطر تتفاوت شدتها بحسب الأحوال، فيسحب الجميع أغطية الرءوس. على الجانب المقابل، تمتد محال ومقاه عشاق القهوة الصباحية مع البسكويت والحلوى اللبنانية. لصباحات بيروت نكهة تميزها عما سواها.
ما إن تقترب عقارب الساعة من السابعة صباحاً حتى ينصرف كل منهم إلى شأنه على وعد اللقاء مساءً. لا يطيق اللبنانيون الوحدة. اجتماعيون من الدرجة الأولى. في المساء، يتحلق الجيران والأصدقاء بينما تدور أكواب الشاى بالنعناع والقهوة المغلية بحب الهيل مع المخبوزات وبدائع الحلويات. يعبق أحاديثهم وتعليقاتهم نكهة السياسة ومِلحها. سكرت لبنان من خمر السياسة وما أفاقت.
(اسمى سركيس. مسيحى. تربيت على عطاءات الشيخ رفيق الحريرى، رحمه الله، وتعلمت بفضل منحته الشهرية)، يحكى السائق، أو ربما أراد شيئاً من فضفضة مع غريب لا يعرفه ولا يبوح بسره، وإن باح فلا أحد ممن سمع يعرف سركيس. تماماً عندما نجلس فُرادى أمام البحر، ثم تنساب شكاوانا في هدوء. أشبه ما نكون في غُرفِ الاعتراف. يسمع البحر، يبتلع الكلام، ولا يخبر به أحد. (لم تميز عطاءات الشيخ رفيق بين طوائف اللبنانيين. تقف الشاحنة على أول الشارع، ثم يبدأ العمال في التوزيع على البيوت بالترتيب) أردف السائق. لم أجد ما أعلق به، فقلت معقباً (أجمل ما في العطاء، ألا تعرف من تُعطى).
في رحلات السفر، تستقر الانطباعات. تتجاذبنا التفاصيل والحكايات. تحتار قلوبنا بين هنا وهناك. (لما بكون فى المنيرة بتوحشنى باريس، ولما بكون فى باريس بتوحشنى المنيرة)، هكذا عبر سمير عبد الكريم عن حيرته فى رواية أيام المنيرة للراحل محمد جلال. أرجوحة تلهو بنا من شاطئ اليأس إلى الرجاء والعكس فنبحث فى كوم قش التناقضات عن صيغة توافقية. ما تصنعه اليوم يصبح ذكرى للغد. بيدنا نصنع ذكرياتنا وماضينا، أكثر مما نصنع مستقبلنا ... تقترب السيارة من محيط المطار، يَخُفت حديث سركيس العفوى والمباشر، استطعم صوت فيروز، أردد خلفها، (بعدك على بالى يا قمر الحلوين).
------------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]