12 - 05 - 2025

18 مشهدا من أيام الميدان

18 مشهدا من أيام الميدان

(1) 

 بين الرصاص والرصاص كنا نشق طريقنا ، نتعثر ونسقط أرضا حينا، وتسعفنا أقدامنا أحيانا أخرى، يطاردنا الموت من فتحات الكباري، ويطارد الغاز أنفاسنا في الحواري القريبة من الميدان، فنلجأ للاختباء في دكان فكهاني أو مدخل عمارة سعيا لالتقاط الأنفاس، أبناء الموت لم يحظوا بصورة واحدة، فقد احتكر المحتفلون الصور، ليدعوا البطولة فيما بعد، كان ينقذنا عشق الحياة .. العشق نفسه هو مايدنينا مرة أخرى للموت.

(2)

في الميدان كانت أفئدة وقلوب عارية، ليس بينها وبين السماء حجاب، تتوضأ بالندى وتصلي في محراب عشق الوطن، حضرت مصر ببهاء طلعتها، بأخلاقها السامية، بنورها الذي أضاء 5 آلاف عام من عمر التاريخ وغابت الأحزاب والتيارات ومعها غاب داء "الشخصنة"، كان الميدان يهزأ بكل الحلول الوسط التي يحاول تسويقها تجار السياسة في التفاوض داخل القصور والأقبية الأمنية، أما من زعموا فيما بعد أنهم مخططو الثورة ومشعلو جذوتها فقد كانوا مذعورين كالفئران لا تكاد تلمحهم إلا زائغي العيون على مقهى قريب، هؤلاء هم أنفسهم من قتلت خلافاتهم ومساوماتهم واتجارهم بالحالة الثورية كل شيء جميل، جعلوا الناس تكره الثورة والثوار، وتلعن اليوم الذي وقفت فيه مع الجموع في وجه جلاديها.

(3)

لحظة تحليق الطائرات المقاتلة فوق الميدان كانت لحظة فارقة .. بثت الرعب في قلوب الوجلين، فهرعوا هاربين.. وجوه سياسية وقيادية كبيرة، بعضها ركب الموجة، وبعضها يناضل الآن من خارج مصر ويدعي البطولة، سيطر عليهم الرعب من أن تنتهي حياتهم بصاروخ يسقط - في لحظة حماقة - على وهبوا عمرهم لبلادهم، كان عملا مجنونا ان تقتل مصر أطهر من فيها، ولأني استكثرت الخوف من صوت المقاتلات وهي تفترب من اسطح العمارات على أبنائي الذين كان أكبرهم لا يتجاوز 13 عاما، فقد احتقرت من يهرب في ساعة "المنازلة" ليتصدر موائد "المجالسة"، لا حق لنا الآن في سؤال " ما للجمال مشيها وئيدا".

(4)

على أهدابهم كانت تمشي.. حالمة رقراقة، ترى المستقبل في عيونهم، بقلبهم تحس، وعلى دندناتهم (أبكي .. أنزف أموت .. وتعيشي يا ضحكة مصر) تتراقص روحها، تمازج حلم الجماهير وحلم مصر في التحرر كأنهما روحان في بدن، اتشحت بالعلم واتشح بها، لم تكن غير صرخة الخلاص من استعباد الروح والعقل. تجلت ايزيس في الميدان وكان اوزوريس هناك، تجمَع حلما حلما من كافة ربوع الوطن وتوحد بها، الواحد جموع والجموع واحد، لم تكن ثمانية عشر يوما بقدر ماكانت ثماني عشرة حياة. في لحظة انكسرت الثورة، فانكسر معها كل شيء، لم يعد أولئك البشر الخارقون موجودين، تبددوا، ومع البدد عاد كل شيء إلى سيرته الأولى، وانكفأ كل على أحزانه.

(5)

كانت المسافة بين الحلم والواقع قصيرة.. أقصر مما يتصور أحد .نسور تسير على الأرض ، لا تحس إلا بأجنحتهما تضرب الهواء القريب منها بدلال.. مجموعة خفافيش تقف هناك تمنع الدخول، ضباط أمن دولة ومخبرون وبلطجية بالعشرات كانوا يحاولون وأد الحلم، ابني تجمع حولة بلطجية وطرحوه ارضا وضربوه بعنف صباح يوم موقعة الجمل. حين كانت الخفافيش تسير ذليلة في الشارع كنت استمتع بمناظرهم مطأطئي الرؤوس، لكن الاعتداء عليه مازال غصة في قلبي ولم أثأر له إلى اليوم.

(6)

في المساء أفرغت وأصدقائي كل ما في جيوبنا لنشتري كل "حلوى المشبك" الموجودة لدى أحد الباعة، وأتطوع أنا بخوذة مصنوعة من ورق الكرتون لأدخل إلى الصف الأول في المواجهة مع بلطجية حشدهم أنصار مبارك، كنت أصر على إطعام الشباب الذي يحمي ميدان الثورة بيدي في أفواههم، كانوا مستمتعين كأنهم يأكلون من طعام الجنة. شاب واحد زم شفتيه، ومد يده إلى الطبق الكرتوني الذي أحمل عليه الحلوي، ليضع قطعة منها في فمي. ادركت شكوكه، فنظرت باحتقار الى عينيه، تأسف كثيرا، وحاول الحصول على قطعه حلوى بديلة للتي زم شفتيه أمامها. أقسمت لو أنه سيموت جوعا لن يتذوقها.في الثانية ليلا اتصل تليفزيون BBCليطمئن رئيس تحرير النشرة أني هناك في قلب معركة كانت تدور، كنت قد عبرت الجموع التي كانت راكعة أو ساجدة أو هاجعة قرب الكعكة الحجرية، ووصلت إلى مشارف عبد المنعم رياض، قبيل ان أختتم المداخلة مرقت رصاصة من أعلى إحدى البنايات المطلة على الميدان وحفت شعري لتصيب ثائرا خلفي في فخذه. رويت الواقعة على الهاتف للـ BBC، علق المذيع المخضرم قائلا: هذا على مسؤوليتك وستتحقق الـ BBc من الواقعة عبر مراسلها.أغلقت الخط وتحسست رأسي .. لا أثر لدماء

(7)

تفرس في وجهي قليلا ثم احتضنني، وتلمس لوحا من الصفيح أضعه على رأسي وأربطه بحبل ليكون أشبه بخوذة، كان منظري غير مألوف أيضا وأنا أمسك بخشبة غليظة في يدي، بابتسامة صافية تعودتها منه قال إبراهيم منصور الصحفي والكاتب اللامع "بقا هيه دي آخرة مجدي شندي" ؟؟؟. لم أكن ساعتها إلا من أبحث عنه في ذاتي، وقليلا ما أجده. كان ابراهيم منصور الوجه الوحيد المعروف الذي صادفته ليلتها. الميدان بأكمله خال إلا من نحو ثلاثة آلاف شخص معظمهم من شباب الريف، أخذت أتجول وأتفرس في الوجوه محاولا العثور على واحد ممن يمتليء بهم الميدان ويتحلق حولهم ملائكته في ليالي السمر، من خطباء وفنانين ووجوه تليفزيونية ومن أطلق عليهم فيما بعد بالنشطاء. راودتني فكرة مجنونة.. وهي أن أجمع أسماء الحاضرين ليكونوا فيما بعد برلمان الثورة، ومن لهم حق التحدث نيابة عنها، خفت أن تفتك الفكرة بي، ويهتف أحدهم "الحق مباحث". استعضت عن ذلك بالتفرس في الوجوه ومحاولة استعادة ذاكرتي التي كانت تحفظ في الصبا سطور الكتب، حاولت اختبار الذاكرة فيما بعد حين صادفت في الشارع نحو عشرة منهم على فترات متقطعة وأخذت أسألهم عن تلك الليلة. كنت سعيدا لأن النسيان لم يستطع قهري .. وأستطيع اليوم تمييز غالبيتهم من بين مليون شخص.

(8)

في غرفة بالدور الخامس من المستشفى الفرنساوي، مر شريط أيام الميدان في لمح البصر، ثم اختفى .. فجأة أحسست بدوار، أتبعه إحساس بأن أعضائي تترك مكانها خاويا ليحل محلها هواء خفيف، بحت بذلك لمن حولي، وكان تعليقهم ساخرا "ده أكيد من الـ 15 واحدة اللي جوه قلبك". ذهبت بقلبي الخاوي (ظاهرا) إلى حيث يربض الموت، تذكرت قول خالد "وهانذا أموت على فراشي كما يموت البعير"، وأنا من طلب الشهادة وظن أنه استجيب له، غير أن سكينة خفية انتزعتني فمضيت في هدوء، لا أعرف ما إن كنت تأوهت من وجع لم أدركة أم لا ؟ كنت مطمئنا أنني أترك أجمل أيامي وديعة في يد من هو أقدر مني على روايتها. وأنني عشت بأيام الميدان وحدها أكثر مما أستحق. بعد موتتين تغيرت ، أخذت أنظر للماضي كأنني ضيف عليه، حتى سلسلة مفاتيحي الشخصية أحسستني عبئا عليها، لشهور تركت سيارتي، لماذا استقل سيارة والملايين تكابد للوصول لمكان عملها. مفاتيح مكتبي تركتها للسكرتيرة.. لم أعد أريد شيئا خاصا بي وحدي، حتى لحظات النجوى مع أحبتي زهدت فيها، كنت أريد أن انتزع نفسي من حياة من هم حولي ببطء ودون أن يشعروا، بعد أن كنت محور حركتهم وتفكيرهم. منهم من تفهم ومنهم من راودته افكار خاطئة، فجفاني. كل ما سيطر علي هو أنني أريد أن أرحل، دون أن يحزن ذلك أحدا. لكنني أحزنت من يقتسمون معي بعض روحي من حيث أردت ألا يشعروا بالحزن أبدا.

(9)

خمسة وأربعون يوما قضيتها خارج مصر بعد نجاح الثورة بشهر مرت كأنها خمسة وأربعون دهرا ، لم يهونها إلا هي.

كنت على استعداد للمقامرة بالحياة نفسها - وليس بمجرد موقع مريح براتب ضخم في الخليج - من أجل أن أعود، فالباحث عن نفسه لعقود لم يجدها إلا هنا في ميدان التحرير.

هل جربت إشراقة الروح؟ جربتها أنا .. وكانت قطعة من خيال طوباوي، تشبه ذوبان العارف في ذات خالقه.

لم أشغل نفسي بالتخطيط لشيء ولا بالتفكير في شيء .. العودة كانت الغاية، لذا كنت أركض "ركض الوحش في البرية" وصولا لها.

في أول يوم بعد عودتي (26 أبريل 2011) زرت الميدان، لم يكن هو ذاته الذي تركته قبل بضعة أسابيع، خلا من الوجوه والقلوب الطاهرة وامتلأ بوجوه ليست أهلا للمكان.. ها أصنام قريش قد عادت لكعبة الثوار.. لم أطق البقاء لدقائق في المكان ذاته الذي تمنيت أن أموت وأدفن في ترابه الطاهر.

وعدت منكسرا انكسار أول ناج وجد نفسه وحيدا في الكون بعد الطوفان.

(10)

لم يعصف ضياع الثورة بالوطن وحده.. لم يكتف بإجهاض الأحلام وإنما أجهض الواقع أيضا، فما تحقق على الأرض مالبث أن انهار .. الإحساس بالحرية والإحساس بالأمان والكرامة وبأن الغد سيكون أفضل، تذكرت مقولة ماركيز "كان الطريق إلى البيت أجمل من البيت نفسه".

لم يصل المصريون إلى البيت الموعود بل تركوا حتى يرونه رأي العين لينسف أمامهم، ويعلمهم(مجهولون) أن هناك دائما "فرعون ما " ينتظر في مكان مجهول، يصعد يوما إلى العرش برضاهم أو رغما عنهم، ليطالبوا بعدها أن يعبدوه.

الأهم أن تبدد الحلم الثوري كسر قلوبا كان بإمكانها أن تحلق وتضرب سقف السماء، وتحول هموم الواقع إلى فردوس أرضي، وبدلا من ذلك خلف أندلسا جديدة وأنغاما مشروخة وكمنجات تبكي، وقذف بأساطير عشق إلى ساحة المهملات ليجعل أصحابها يعلقون أنفسهم في رقاب أقزام بعد أن كانوا لا يعلقون أنفسهم إلا على "عنق لاتطاول غير الغمام" بحسب قصيدة درويش.

هل انتهينا ؟؟ أظن إلا قليلا.

(11)

"اسمع.. أنا قادم غدا، طائرتي ستهبط في مطار النزهة بالإسكندرية الحادية عشرة صباحا. دع ضباطك ينتظروني هناك إن شئت". كانت تلك عبارتي الأخيرة للضابط الكبير في أمن الدولة قبل أن أغلق الخط، بعد مشادة تليفونية يوم 18 يناير 2011.

بدأت المشادة باتصال هاتفي من جانبي، أتساءل فيه عن مصير تأسيس صحيفة جديدة كنت قد تقدمت به لهيئة الاستثمار مع نحو 20 صحفيا أواخر عام 2009.

الطلبات المقدمة لتأسيس الصحف عادة لاتتحرك خطوة واحدة داخل الهيئة إلا بموافقات من جانب أمن الدولة والمخابرات، ومن ثم فإن الطلب ظل معلقا قرابة عامين، رغم أن كل الأوراق مستوفاة ومبلغ التأسيس كاملا مودع في البنك.

بعد جلسات طويلة استمرت على مدى شهور ومناقشات حول كل شيء، واجابات قاطعة من ناحيتي بأننا سنقاوم الفساد وسنعادي توريث مصر، تلقيت وعودا بدراسة الموضوع. وكان لابد من وضع حد لانتظار طويل.

اتصلت صبيحة ذلك اليوم من دبي لأحصل على إجابة قاطعة، قال الضابط الكبير : لن نوافق على تاسيس الصحيفة. ولأول مرة نرسل رفضا مكتوبا لهيئة الاستثمار، سألت لماذا؟ أجاب الضابط: نحن نعرفك ونثق في توجهاتك رغم معارضتك المريرة للنظام، لكنك مجرد رئيس تحرير، يمكن بعد شهور أو سنوات أن يقيلوك ويأتوا بغيرك. سألت من هؤلاء؟ أجاب من يقفون وراء المشروع، أصحابه الحقيقيون . حاولت إفهام الرجل أن من تقدمت بأسمائهم هم الملاك الحقيقيون، وانني صاحب فكرة هذا المشروع ومحوره. أصر على وجهة نظره، فطلبت منه موعدا عاجلا لإثبات أن لا أحد تم إخفاؤه. رد ببرود : لن يكون لدي وقت لمناقشة أي شيء هذا الأسبوع، إن شاء الله بعد يوم 25 يناير عاود الاتصال بي. بجفاء أجبت.. بعد 25 يناير لن أحتاج الاتصال بك ولا بغيرك.

دقائق قليلة وفوجئت بالضابط نفسه يطلبني والقلق ينضح من صوته ويسأل قل لي ماذا سيحدث يوم 25؟ نحن نراقبك ونعرف كل تحركاتك واتصالاتك؟ ونتابع ماتكتب حرفا حرفا، كان لك مقال خطير قبل أيام بعنوان "غضب" تتحدث فيه عما يحدث في مصر باعتباره عرضا سينمائيا، وقلت فيه أن الجمهور في النهاية سيثور ويحطم ماكينة العرض، أليس ذلك صحيحا؟.

أجبت : لكنك من حددت يوم 25 ولست أنا .

مشادة طويلة أصر خلالها الرجل على أنني أعرف شيئا أخفيه وأن لي يدا فيما يتوقع أن يجري. مع تلميحات بأنهم يستطيعون أن يصلوا إلي في أي مكان، فأخبرته بلهجة فيها كثير من التحدي انني القادم إليه.

أدركت ساعتها أن النظام يتخبط.. ليس لديه معلومات، وأن النمر المخيف المتمثل في أجهزة الأمن ليس إلا نمرا من ورق.

على باب المطار لم أجد يوم 19 يناير 2011 ضباطا في انتظاري ، كما لم يتم احتجازي لإخبار الأجهزة بوصولي على نحو ماتعودت على مدى عقود.

(12)

طوفان من فيض العشق فجره الميدان، طبيبات ومهندسات ومدرسات في الجامعة يكنسن أرضيته، يرتبن أزهاره، كما ترتب عروس سريرها ليلة الزفاف، شباب جامعيون ينظفون محطات المترو ويقولون بصوت نصفه دموع "ماترميش حاجة في الأرض.. لازم تكون مصر انضف بلد في الكون"، رجل ستيني أخذ يطوف قرب الجزيرة الوسطى بالميدان بعد ترويع من فيه مرددا "ما تمشيش.. لو حد يخوفك من البرد . أنا عمري ماحسيت بالدفا إلا هنا، لو حد يخوفك على حياتك.. أنا عمري ماحسيت بالأمان إلا هنا، حد يقولك هتجوع .. عمري ماحسيت بالشبع إلا هنا، بالدفا في عينينا هنهزم البرد، بالأمل في بكره .. هنهزم الخوف، بشبع الروح هنهزم جوع البطون .. إثبت يا مصري".

رسامون وخطاطون حولوا الميدان لواحة تنطق بأن هنا مصريين من أولئك الذين صنعوا أول حضارة في التاريخ.

سيكذب من يقول أن هناك تنظيم سياسي أو تيار كان حاضرا.. الشعب حضر، أما الطحالب التي كانت تظهر على الشاشات او تساوم على غضب الناس في الغرف المغلقة فكانوا يأتون لالتقاط الصور.

لم يعرف الميدان على مدار 18 يوما لفظا بذيئا، لم تعاكس فتاة واحدة، او تمتد يد لتلمس جسدا، او عين للتلصص على خيمة تنام فيها أطهر نسوة عرفهن التاريخ.

كل البذاءات حدثت بعد انصراف الثوار.

(13)

مساء 8 فبراير 2011 كنت على الهواء مباشرة في قناة مودرن، مع أحمد شوبير . انتظرت في غرفة قرب الاستديو حتى تنتهي الفقرة التي تسبق ظهوري، وكان ضيفها الممثل طلعت زكريا، هالني ماسمعته منه، فقد كان يقدم صورة شائهة لميدان التحرير لاعلاقة لها بالواقع، تحدث عن خيام للمتعة .. وعن مخدرات توزع بين المعتصمين، وأخذ يقسم بأغلظ الأيمان أن ذلك هو مايحدث، فكرت للحظة في اقتحام الاستديو، والصراخ في وجهه بأنه كاذب، غير أني تراجعت إذ أن تصرفا كهذا يمكن أن يمنح وزنا لشخص وكلام أتفه من أن يرد عليه، انتظرت مغتاظا حتى انتهت الفقرة، تم اصطحابي إلى داخل الاستديو فيما كان هو يهم بالخروج، مد يده لمصافحتي، أمسكت يده بجفاء وقلت: لماذا تكذب وتزور؟.. هل رأيت نساء المتعة في التحرير، إن أقل صبية هناك، أشرف من كل الذين رأيت وجوههم في حياتك، بمن فيهم مبارك الذي تكذب من أجله؟ رد متلعثما: لم أر بعيني .. لكن أولادي وأولاد أقاربي ذهبوا ورأوا؟ ساخرا قلت: مؤكد أنهم ذهبوا إلى ماخور في خيالهم، ولم يذهبوا إلى الميدان، يارجل أنا آمن على زوجتي وابنتي في الميدان أكثر مما آمن عليهم في البيت.كان ضيفا الفقرة معي رجب هلال حميدة ، أحد المتهمين فيما بعد بموقعة الجمل والدكتور حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية، أخذ رجب حميدة يروي هو الآخر وقائع مزورة، فقد صور رجاله الذين أتى بهم من عابدين للاعتداء على الثوار وخنق الميدان بأنهم "حرس الميدان" وتساءل لماذا استنكر أن يأتي لهم بوجبات طعام، وثوار الميدان يحصلون على وجبات ودولارات!! بالطبع نال مايستحقه مني على الهواء، فيما أخذ نافعة يتحدث عن القبول بتعديلات دستورية، وكنت حاسما . نظام مبارك سقط ومعه دستوره ورجاله وفساده وذهبوا إلى مزبلة التاريخ. بعد الحلقة شد نافعة على يدي في إشارة إلى أني كنت أكثر حسما.

حين تحول الميدان فيما بعد إلى الصورة التي كان يرسمها طلعت زكريا وجوقة الإعلاميين المعادين للثورة، لم يكن الأمر بحاجة إلى ذكاء لمعرفة هوية من فيه .ليلتها، خشي السائق توصيلي إلى البيت، وانزلني قبله بمئات الأمتار قائلا: لقد تابعت ماقلته على الهواء وأخشى أن نجد ضباط أمن الدولة في انتظارنا، فسامحني.

(14)

كان التحرش بفتاة التحرير ليلة تنصيب السيسي قمة المأساة، الفتاة مجرد رمز لثورة جرى اغتصابها وكسرها بشكل ممنهج على مدى سنوات، الهدف كسر الروح وليس بالضرورة افتراس الجسد، لم تكن ثورة يناير شبابية فحسب، وإنما أيضا أنثوية بامتياز . كانت ترنو مصر بإناثها وشبابها إلى الانعتاق من سطوة مجتمع غابي يتيح للرجل (القوي) كل شيء ويحرم الأنثى (الضعيفة) من كل شيء، حتى حقها في أن تعشق وتتمرد وتحتج وتتظاهر وتعلن العصيان.التحرش ليس عملا عفويا، بقدر ماهو سلوك ممنهج، بدأته السلطة قبل الثورة بسنوات .. انتهاك جنسي لايقتصر على النساء وإنما يطال الرجال أيضا لكسرهم، في انتخابات 2005 بدأ لأول مرة بشكل جماعي وفي الشارع أمام نقابة الصحفيين، ثم تمدد . وبعد كان يقتصر على بلطجية ومسجلين خطر يسلطهم الأمن، انتشر كالوباء، استخدمته تيارات سياسية لكسر خصومها الذين لا يضمهم تيار سياسي واحد. كانت كشوف العذرية (وهي احقر إجراء تم اتخاذه ضد الثائرات) إيذانا من السلطة لمن يعانون الضياع والفراغ الروحي لممارسة هذا السلوك الحقير، فانتشروا في كل تجمعات مزدحمة. قنوات الإسلاميين أيضا شاركت بقذارة، وأكل نجوم يظهرون على شاشاتها لحوم ضحايا التحرش، والتعرية أمام الملأ، لم يعد هناك فرز من أي نوع، فالإعلام بكل تنويعاته الذي صور متظاهرات التحرير باعتبارهن "بغايا" لا يستطيع اليوم إقناع "وحوش ضارية" تنتشر بطول المجتمع وعرضه أن من يخرجن للميدان أعف فتيات مصر (ولو خرجن حتى للاحتفال بتنصيب الرئيس الجديد). ملف التحرش والاغتصاب لايقل أهمية عن ملف الشهداء، يجب أن يجلب قتلة الروح هؤلاء إلى العدالة، مثلما ينبغي أن يجلب مزهقوها.. من أمر بتوقيع كشوف العذرية يجب أن يعدم في ميدان عام أيا كان اسمه ورتبته. حين تفعل بنات مصر مايشأن، يرتدين مايروق لهن، ويكن آمنات على أنفسهن في أي وقت وفي أي مكان، تتحقق روح ميدان التحرير الأولى التي يحاولون قتلها، مع كل تحرش جديد يزداد الإحساس بالقهر، ومعه ترتسم ملامح ثورة جديدة لانعتاق آخر قد ينجح. وسينجح ، فالشمس لابد أن تخترق أشعتها يوما كل الحجب، مهما كانت قوة سدنة الظلام.

(15)

كان ميدان التحرير على مدار 18 يوما أبهى مكان في المعمورة يمكن أن تقام فيه الأعراس وحفلات الخطوبة وأعياد الميلاد، حيث القلوب طاهرة والبهجة عارمة ونور الأمل يحلق بالنفوس فتلامس سقف السماء، لن ينسى أي من هؤلاء أبدا تجربة الزواج في الميدان، لو تكرر الجو نفسه لفعلتها ولو كنت على مشارف التسعين.ليس هناك أعظم من أن تجد مائة ألف أو يزيدون يحتفلون معك، بالتأكيد لن تنسى هويدا الحسن وهي كاتبة رائعة وممثلة شابة واعدة احتفالنا بعيد ميلادها يوم 8 فبراير، مكان واحد جمع كل من يخطر على بالها من أحبة، وحقق لها مالم يكن يتحقق لو أنفقت كل ماتملك، وربما يكون مقطع فيديو الاحتفال بميلادها أجمل ما خلفته لها الثورة.كانت مصر تولد من جديد، شابة عفية، يغمر بهاؤها الكون كله، لكننا من نسل وأدة البنات، ويعز علينا أن نتخلى عن عادة جاهلية تسري مسرى الدم في عروقنا، ورب وجود النساء في الميدان بشكل ملفت للنظر هو ما أثار غيظ أعداء الثورة الذين تتعامى أبصارهم عن رؤية المرأة إلا جسدا ومتعة، فيما كانت هي وقت الثورة أمنية وحلما .سيقال الكثير عن موقعة الجمل، لكن الجنس الناعم كان البطل الحقيقي لها، حيث أخذت النسوة والبنات يحضون الرجال من المتظاهرين على الذود عن الميدان، بالطريقة نفسها التي تم اتباعها في غزوات المنتصرين. لا أظن أن واحدة ممن ذهبن للميدان فكرن في أجسادهن، أو انتاب أي منهن قلق عليه، فمن يخرج حاملا أملا عظيما، لا يفكر أبدا في الاعتيادي .. يفكر فيه الغارقون في وحل الواقع واحباطاته، والثورة بمجملها كانت حلما أعز من أن تدنسه الرغبات الشخصية. لم تحلم نسوة مصر وقتها إلا بفارس يأتي على جواد أبيض ، كان اسمه الانعتاق.

(16)

كانت أجمل الصلوات تلك التي تؤديها الجموع على أسفلت الميدان، لو تيسرت لك ورقة من صحيفة تضعها تحت جبهتك وأنت ساجد فهذا يكفي، ووقت الخطر تجد صفوفا من الأقباط تحمي ظهور المصلين، حيث تكون الصلاة أجمل والقرب قرب، جمع الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء، والقنوت جهرا، لا أحد يدعوك للصلاة، فرواد الميدان لم يكن من بينهم من يدعي قربا أكثر للسماء. لأسابيع طويلة ظللت لا أحس بطعم صلاتي إلا في ذلك المكان الذي حوى أطهر من في مصر من بشر، فكانت الجمعة دوما هناك في رحاب التحرير، تصفي كل رواسب النفس. قرب الميدان كنيسة قصر الدوبارة، حيث القلوب الحنونة تداوي الجرحى وتبلسم الأوجاع، لم تكن صلاة المسلمين قرب مذبح الكنيسة تثير حساسية بل تلقى ترحيبا وتدخل المسرة في النفوس، فها نحن نعود لصفاء الرسالات قبل أن يعكرها تجار الدين، نعبد إلها واحدا رحيما ونثور ضد نظام واحد لا يفرق رصاصه الموجه للصدور على أساس الدين أو الجنس أو اللون. جسدت ذلك في مقطوعة صغيرة بالعامية (دم الشهيد نازل على ايدي .. ريحته ريحان ، بايده اليمين مرسوم صليب ولسانه ينطق بالأدان) في جمعة النصر التي أمها القرضاوي كان النصر قد بدأ يتبدد، فحين يتوارى صناع الحدث ويحل محلهم ركاب الموجة تبدأ العربات في السير إلى الخلف. يومها أحست التيارات الإسلامية أن سطوتها وقدرتها على الحشد تنزلها بمنزلة الشعب كله، ومن يومها لم يعودوا يرون إلا أنفسهم!!

(17)

* أريد منك شيئا في منتهى الأهمية  

- خير يادكتور 

* هو عمل وطني من الطراز الأول في الظروف الحساسة التي تمر بها مصر 

- تفضل 

* حاول أن تقنع الشباب عندك بخيار عمر سليمان 

- ( متظاهرا بعدم المعرفة ) وما هو خيار عمر سليمان؟ 

* أن يذهب مبارك وأولاده إلى حال سبيلهم، ويتولى نائب الرئيس مقاليد الحكم. 

-وهل تتصور أن قوة في الأرض تستطيع اليوم أن تقنع الميدان بحلول وسط فات أوانها؟؟

* أنت تستطيع بما عرف عنك من تعقل ونزاهة وسيرة طيبة. 

- هذا كلام كان يمكن أن يكون مقبولا قبل أيام، تعرف أن سقف مطالب الشعب يرتفع لحظة بعد أخرى، ولو أقال مبارك وزير داخليتة يوم 25 يناير لعاد الناس لبيوتهم، أما اليوم فلن يقبلوا غير رحيل النظام كله. 

* سيذهب مبارك وشلته والفاسدون من الحاشية وسيبني عمر سليمان نظاما جديدا. 

- لن يكون مقبولا صدقني . 

* وما هو المقبول في ظنك؟ 

- أن يذهب مبارك وكل رجاله بمن فيهم الحكومة الجديدة التي عينها، وان يكمل عمر سليمان الفترة الرئاسية حتى سبتمبر بحكومة ثورة يشكلها الميدان على أن يتعهد في وثيقة مكتوبة أنه لن يرشح نفسه لأي منصب بعدها، ذلك أقل ما أستطيع إقناع أي شخص في الميدان بقبوله . 

* لكن هذا لن يكون مقبولا في ظني. 

- حين يشتد عود الثورات، فلا مجال للحلول الوسط. 

انتهت مكالمتي الهاتفية - خلال الأسبوع الأول من فبراير 2011 - مع الإعلامي البارز المقرب من دوائر نظيفة في حكم مبارك، وأوشكت أن احتضن كل من حولي فرحا بأن الثورة الحالمة توشك أن تحول أحلامها إلى واقع.

(18)

أكبر دليل على عفة هذه الثورة وطهارتها هم شهداؤها، بسطاء مثلي وحالمون، لا ينتمون لأي تنظيمات سياسية فانتماؤهم الوحيد كان لمصر \، التي جمعت فجر التاريخ كله في عباءتها، أغلبهم ممن قرأوا "شخصية مصر " لجمال حمدان و"على اسم مصر" لصلاح جاهين، و "مش باقي مني " لجمال بخيت، فعرفوا فضائلها ورذائل نخبتها، وأرادوا أن يشقوا بدمائهم مجرى جديدا لها. 

في مناظرة تليفزيونية لاحقة تحديت قياديا في أحد التيارات أن يأتي لي بأسماء عشرة شهداء فقط ينتمون إلى تياره من ألف شهيد دفعتهم ثورة يناير إلى الخلود ، لم يكن يستطيع أن يأتي باسم واحد.. وكذلك كل الحركات والتيارات. لذلك أضحى الشهداء مثلي، يتامى من تنظيم أو جماعة تطالب بالقصاص لدمائهم، ولذلك يخرج القتلة أبرياء، بعد أن غسلت المحاكم أيديهم من الدماء، ومثلهم سيخرج مبارك والعادلي وإن طال أمد التقاضي. قتل الحلم يشارك فيه الجميع، حتى القضاء ومن نصبوا أنفسهم قيادات للثوار!!.. لم يعرف أحد أبدا قيمة ماتم في 11 فبراير 2011، بل فوجيء الجميع بالنتيجة، وبذلك الشعب العبقري الذي لا يهزم أبدا، وحين نجهل قيمة الأشياء نبددها ببساطة، وتنقلب حالة تقديس الثورة التي سادت لشهور إلى حملة سب ضد الشعب، ووعيد له، بعد أن كان الإله الذي لاتعصى أوامره. لم يكن الشهداء وحدهم من ماتوا دفعة واحدة .. فهناك شهداء أحياء يموتون كل يوم. بطريقة أشد وجعا، تلك ملامحها: "تقطر .. زهرة فزهرة . وعشبا فعشبا  ونفسا فنفسا .. وأمنية أمنية  تقطر حتى تقول الأرض كفاني من دمه .. وحزنه ..ونبله .. ويتمه .. وشجوه .. وسكره وأحلامه الواهية".
(كتب في يونيو 2014 )
----------------------------
بقلم: مجدي شندي

مقالات اخرى للكاتب