12 - 05 - 2025

من كليلة ودمنة

من كليلة ودمنة

على الرغم من أصلها الأوربى، اكتسبت القطط الشيرازية، نسبة إلى مدينة شيراز بإيران، شهرة واسعة لا تنافسها فيها سوى القطط التركية بجمالها وتنوع ألوانها التى ترضى أذواق الكثيرين حول العالم، فراء كثيف، ألوان مختلفة، عيون ملونة، سمع مرهف، ودودة، تحب اللعب. اعتادت هذه وتلك، أن تجد طعامها ملك يمينها، يتبارى مالكوها فى تنويعه وتشكيله بما يفتح شهيتها ويحافظ على صحتها. على عكس ذلك، تكد قطط الشارع فى البحث عن قوتها، حيناً تنبش كيس قمامة، وحيناً تنتقى ما يناسبها من بقايا طعام، وحينا تظفر بغريمها الأبدى وسلطان موائدها الخاوية وسيد هداياها، إن أُهدت، ومهر الحبيبة إن وجدت، دلالة خير كثير إن غازل أحلامها، فى وجوده غنى عمن سواه، وفى غيابه شوق إلى لقياه حين يقرصها الجوع ويضن عليها الشارع بما يسد رمقها فيتراءى لها سراباً، تتذكر ليال ملاح تربصت، فلمحت، فحاصرت، فلاعبت، فانقضت، فاصطادت، حبة عين قلبها، الفأر. 

للقط منهج غير تقليدى فى صيد الفئران يتفرد به ويختلف عما يسلكه فى صيد فرائسه الأخرى، يلهو بأعصابه قبل الانقضاض عليه والتهامه متلذذًا بكل خلية من خلاياه، ولا استغرب أن حاول والت ديزنى رد الاعتبار للفئران فجعل من ميكى بطلاً أسطوريًا لا يخاف ولا يهاب غريمه القط، يتربص به، يسبب له المشاكل، فيُطرد من المنزل بمقالب يدبرها له، ولا يتورع عن ضربه بكل ما تطاله يده من أدوات، ولأنه عالم من الكرتون لا توجد نهاية للمغامرات، كر وفر. 

تتنوع القصص وتختلف عن عالم كليلة ودمنه لمؤلفها الحكيم الهندى بيدبا أهداها إلى الملك دبشليم ناصحًا ومعلمًا ومذكرًا ومراعيًا آداب مخاطبة الملوك، وأيضاً تلافى الوقوع في فخ سوء الظن من جانب حساده وأعداءه، الذين يتربصون للإيقاع بينه وبين الملك. حكايات تقطر حكمة وفطنة على لسان الطير والحيوان. 

طرق القط بيت الفأر وخاطبه قائلاً (آن أوان أن ننسى عداواتنا الأبدية وأن نعقد صلحا، مُد يدك أصافحك)، رد الفأر من خلف الباب وهو يقطر رعباً، (لقد أكلت والدى وجدى، واليوم تريد أن تأكلني)، أقسم القط بأغلظ الأيمان بندمه وتوبته، وتأكيداً لحسن نيته دعاه إلى رحلة بحرية. خرجا في مركب، يجدف القط حيناً والفأر حيناً آخر، لعب النسيم بعقل القط وهَمَ بسوء، ثم تذكر عهده مع الفأر، بينما تضرب مطرقة الجوع بطنه بلا رحمه، نظر إليه بعينين ناريتين وصاح (جدف ولا تثير الغبار)، نظر إليه الفأر مذهولاً ورد بصوت يرتجف (نحن في البحر، فمن أين يأتى التراب)، فانقض عليه وقبض على عنقه بفكيه القويتين قبضة مميتة ثم همهم قائلاً (أكره أن يجادلني أصدقائي).

لا تخلو كليلة ودمنة من حكم، شاهد ذكر البوم أم قويق تقف على غصن شجرة كالحة أمام أحد الخرائب ناشرة جناحيها في الشمس بعد ما تناولت غدائها من كتاكيت خطفتها من على بعض الأسطح، فخاطبها متسائلاً، وقد أُعجب بانسيابية جسمها وجمال ريشها، (أما آن أوان زواجنا؟)، فنظرت نحوه بطرف عينيها دون تحريك رأسها وقالت بتعال (وهل تقدر على مهرى؟)، فرد عليها متشجعاً بعد ما رأى بادرة استجابة، (وكم مهرك؟). (عشر خرابات) بادرته بكبرياء أنثى تعرف مكامن فتنتها، فقال لها (أمر هين .. انتظرى حتى يتولى فلان الحكم، وسمى لها شخصاً، وأقدم لك مائة خرابة).
-----------------------

بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]om

مقالات اخرى للكاتب

نوتردام.. تولد من جديد