إن الرحمة ليست قناعاً يرتديه المسؤول لأغراضٍ دعائية ثم يخلعه .. وإنما هى خُلُقٌ دائمٌ لا يتجزأ يُلازمه فى كل تصرفاته .. وإلا تحولت إلى شكلٍ من أشكال الرياء.
قيل إن فخامته قد تأثر بحالة صفية وهى سيدةٌ مُسنة انتشرت صورتها وهى نائمةٌ بالقرب من محطة مترو فى ليالى البرد القارس الذى مر بمصر فى الأسبوع الماضى، فتحركت كل أجهزة الدولة لإنقاذها .. ثم قيل إن (الأجهزة) وقد انتقلت إليها روح الرحمة فجأة قامت بنقل ٢٨٠ من الصفايا (جمع صفية) من صقيع الشوارع والأرصفة إلى دفء دور الرعاية.
والحقيقة أن أى خطوة فى هذا الاتجاه محمودة .. حتى لو اقتصرت على صفيةٍ واحدة .. إلا أن المرء لا يملك إزاء هذه الرحمة الرئاسية المفاجئة إلا أن يتساءل متعجباً (أَتَعلَمُ أَمْ أَنْتَ لا تَعلَمُ؟) .. لا أقصد هل تعلم أن (الصفايا) جَرَّاء قراراتك الفردية لم يعودوا قاصرين على مُشَّرَدى الشوارع والأرصفة .. وإنما امتلأت بهم ملايين البيوت التى هتكت (إصلاحاتك) سَترها .. وإنما أقصد هل تعلم ما يعانيه معارضوك فى سجونك؟ .. لدرجة أن يقول العالم الجليل الأستاذ الدكتور يحيا القزاز بلسان زملائه من قامات مصر وساداتها كالمقاتل السفير معصوم مرزوق والباحث العلامة الدكتور رائد سلامة (لا نطلب معاملةً مميزة .. لا نطلب إلا أن نُعامَل معاملة القَتَلَة وتجار المخدرات).
فى نفس يوم (صفية) اتصل الصديق نجاد البرعى بالأستاذة المحامية وفاء المصرى للاطمئنان على زوجها الصديق الاستاذ محمد منيب المحامي بالنقض وعضو مجلس نقابه المحامين السابق والعائد من رحلة علاجٍ خطيرةٍ فى فرنسا قبل أن يُحبس مع آخرين على ذمة إحدى قضايا العصر .. فعرف منها ما يتعرض له وزملاؤه من ألوانٍ لا إنسانية من التضييق .. لكن أكثر ما صدمه هو قولها (إن السجن مش عايز يدَّخَل للناس بطاطين زيادة، وأنها اضطرت تعمل مشكلة كبيرة لحد ما دخلت بطانية واحدة لمنيب أما منتصر الزيات فلم يسمحوا لابنه ولا آخرين بادخال بطاطين!! ) .. عَلَّق نجاد على ذلك بقوله (إن منع إدخال بطاطين أو ملابس ثقيله لناس كبار في السن او حتي شباب في أجواء عاصفه باردةٍ يؤكد أن الموضوع ليس تضييقاً ولا إذلالاً وإنما شروعٌ فى قتل).
ما كاد نجاد يكتب ذلك على صفحته حتى انفجرت صرخات الملتاعين على صفحته وعلى غيرها ترصد بعضاً مما يحدث فى سجون فخامتكم:
أَتَعلَمُ أم أنتَ لا تعلمُ أن الزيارة ممنوعةٌ عن عصام سلطان المحامي منذ ما يقرب من عام .. وهو ممنوعٌ قبل ذلك بشهورٍ طويلة من التعرض للشمس .. فضلاً عن منع أسرته من إدخال أى أدويةٍ ولا طعامٍ ولا ملابس، ناهيك عن البطاطين.
أَتَعلَمُ أم أنتَ لا تعلمُ أن الزيارة ممنوعةٌ منذ أكثر من سنة عن الباحث هشام جعفر .. وأنه لا يرى الشمس نهائياً منذ حُبِسَ احتياطياً قبل ٣ سنوات .. نائمٌ على الارض و أسرته ممنوعةٌ من إدخال سرير او حتى كرسي لتخفيف آلام عظامه.
أما الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح الذى يعانى من أمراضٍ فى التنفس والعمود الفقرى فقد بدا شاحباً فى آخر جلسةٍ لتجديد الحبس الاحتياطى، لدرجة أن محاميه وذويه (المتحفظ على أموالهم) لم يتعرفوا عليه عندما نزل من سيارة الترحيلات.
وبديهىٌ أن قيادات جماعة الإخوان وعائلاتهم ليسوا أسعد حالاً (المهندس خيرت الشاطر والدكاترة محمد بديع ومحمد مرسى وسعد الكتاتنى وعصام العريان وغيرهم) .. وبالمناسبة فقد صَحح لى الصديق المحامى محمد عبد الوهاب ما كتبته عن خروج الدكتور محمد البلتاجى من القفص الزجاجى فى الجلسة الأخيرة .. البلتاجى لم يُسمح له بالخروج من القفص الزجاجى (حيث لا يَسْمَع ولا يُسمع) وإنما أُمُّه المقعدة سُمِح لها بدخول قاعة المحكمة على كرسى متحرك فجلس البلتاجى على الأرض فى القفص ليكون بإزاء قَدَمَىْ أُمِّه وظل يقبلهما بالإشارة حوالى نصف ساعة وهى ترد بالحسبنة على من ظَلَمَه.
هذه مجرد عينةٍ مما تسمح به المساحة ممن نعرف من أسماء المطرودين من رحمتك التى وسِعَت صفية .. وهناك أضعافهم ممن لا نعرفهم ولكنك بالتأكيد تعرفهم ويعرفهم أحبابهم المُكتوون بما أصبتَهم به من أذىً وفقدٍ وتنكيل.
لا مجال لأن نسأل (لماذا هم محبوسون أصلاً) .. لسذاجة السؤال من ناحية .. ولأن مصر كلها تعرف الإجابة من ناحيةٍ أخرى .. لكن حكاية صفية والبطاطين هى التى حَرَّكت على اللسان تلقائياً سؤال شاعر العراق الكبير محمد مهدى الجواهرى:
(أَتَعلَمُ أَمْ أَنْتَ لا تَعلَمُ؟ ... بأنَّ جِراحَ الضحايا فَمُ)
وهو فمٌ ليس بينه وبين الله حجاب .. وهو مستجاب الدعاء .. ولو بعد حين.
عفواً يا صاحب الفخامة لم أكتب هذا المقال لكى أُفسِد عليكم زفة صفية وأخواتها .. ولا لأستجدى لهؤلاء الرجال (والنساء) حقوقاً يفرضها الدستور والقانون والأديان والأعراف والمروءات وكل مواثيق حقوق الإنسان .. ولا طمعاً فى ضمهم إلى مشروع (حياة كريمة) .. فهم كِرامٌ من قبل أن تعتلى عرش مصر .. وسيبقون كِراماً بعد أن تغادره .. كتبت هذا المقال فقط لأقول لفخامتك: أنا لا أُصَّدِقُك.
فى البلاد الطبيعية يُعتبر هذا المقالُ بلاغاً للنائب العام ضد الجلاد ومرؤوسيه .. أما فى البلاد غير الطبيعية فقد يُعتبر بلاغاً ضد الكاتب.
-----------------------
بقلم: يحيى حسين عبد الهادى