19 - 04 - 2024

انتخابات الصحفيين.. ترمومتر المزاج العام

انتخابات الصحفيين.. ترمومتر المزاج العام

على مدار التاريخ لم تنفصل انتخابات نقابة الصحفيين أبدا عن المزاج العام للمجتمع، وكانت نتائجها دوما تعبيرا دقيقا عن الرضا العام عن المناخ السياسي والاقتصادي الحاكم والمتحكم .. 

فنقابة الصحفيين ليست مجرد نقابة مهنية والسلام، بل مؤسسة تمتلك رصيدا معنويا هائلا، تؤثر في المجتمع وتتأثر به، وقد تحولت انتخاباتها الداخلية دائما إلى حالة من الجدل الكبير لا في صفوف أبناء المهنة فقط بل في صفوف الجمهور العادي أيضا. 

يخطيء من يظن أن انتخابات نقابة الصحفيين، على موقع النقيب أو عضوية المجلس،  يتم حسمها فقط بالتربيطات أو حتى بالخدمات التي يتعهد بها المرشحون، ففي جولات انتخابية كثيرة كانت عناصر معنوية وقيم مهنية هي الأكثر حسما في انتخابات النقابة، فالحريات العامة وكرامة المهنة والعاملين فيها، وحق إصدار الصحف، وحرية النشر واستقلال النقابة وهيبتها، كانت في كثير من الأحوال عوامل مهمة في حسم نتائج انتخابات نقابة تختلف في دورها وتأثيرها عن كثير من النقابات المهنية الأخرى. 

في عام ٢٠٠٣ فاز الكاتب الصحفي جلال عارف بموقع نقيب الصحفيين ببرنامج كان قائما في غالبيته على دعم حرية الصحافة وحق إصدار الصحف، ولتاريخ فوز عارف دلالة، فقد كان عام ٢٠٠٣ هو بداية مواجهة كبيرة بين قوى مجتمعية ونظام حسني مبارك، وكانت دعوات التغيير والمطالب بإطلاق الحرياتتتعالى، وكان المزاج العام وقتها يتفق في معظمه على أن مصر في احتياج لتغييرات سياسية واجتماعية كبيرة، وكان فوز عارف هو الترجمة الدقيقة لهذا الشعور العام والرغبة الجارفة في التغيير، ومعلوم أن عارف هو أحد ممثلي تيار الاستقلال النقابي، وأحد أبرز المدافعين عن الصحافة وحريتها، ولأن  المزاج المجتمعي كان أكثر ميلا لفكرة التغيير، فاز عارف بموقع النقيب ومعه مجلس محسوب في غالبيته على نفس التيار النقابي الداعي لحرية الصحافة واستقلال النقابة والتغيير. 

في عام ٢٠٠٥ كان المزاج العام المدافع عن حرية الصحافة والمنتظر لتغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية قد تصاعد، وأفرز تحركات مجتمعية كبيرة وضاغطة، وهنا ترجم الصحفيون تفاعلهم مع مجتمعهم وعبروا عن المزاج العام للمجتمع للمرة الثانية بفوز جلال عارف بموقع النقيب، وكانت رسالة الصحفيين واضحة وهي أن تلك الانتخابات لا يحكمها فقط البرامج والخدمات والتربيطات، بل يحكمها أيضا مدى رضا الصحفيين عن المناخ العام في الوطن بأكمله، هذا المناخ الذي تتأثر به مهنتهم التي هي أكثر المهن التي تتقاطع مع الحياة العامة. 

الحقيقي أيضا أن الضغوط الاقتصادية تدفع الصحفيين أحيانا إلى اختيار "نقيب الجسور"، أي النقيب الذي ينال رضا السلطة الحاكمة ليجلب للصحفيين خدمات تساعدهم في مواجهة ضغوط الحياة، وهو أمر مفهوم في سياقه، إلا أن الرائع والمدهش أن الصحفيين أنفسهم يجعلون فكرة "نقيب الجسور" قابلة للمراجعة باستمرار إذا وجدوا أن هناك انتقاصا من حريتهم أو كرامة مهنتهم أو هيبة نقابتهم، بل أن الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين دائما ما يكون اختيارها ذكيا في حال اضطرت إلى اللجوء لفكرة نقيب الجسور، فقد كان التكتيك الذكي الذي عودنا عليه الصحفيون باستمرار يقوم على فكرة نقيب قريب من السلطة ومجلس نقابة يدافع عن قيم مهنية مهمة مثل استقلال النقابة وحرية الصحافة فيحدث التوازن المطلوب. 

تاريخيا لم تكن نقابة الصحفيين أبدا بمعزل عن الحياة العامة، ولم تتراجع مطلقا عن الحضور الكبير والمؤثر في قضايا وطنية جامعة، بداية من حرية الصحافة والرأي والتعبير، مرورا بمواجهة التطبيع مع العدو الإسرائيلي وبرفض العنف والإرهاب والتطرف، والمشاركة في ثورة يناير التي انطلقت وقائعها مبكرا من على سلمها الشهير، كلها معارك وطنية اعتبرها الصحفيون على مدار تاريخهم هما مهنيا ووطنيا أصيلا، وعلى مدار أجيال طويلة كانت تلك القضايا، وغيرها عاملا حاسما في اتجاهات التصويت داخل نقابة الرأي.

تاريخيا أيضا خاضت نقابة الصحفيين معارك مع الكثير من المسئولين والرؤساء، كلهم زالوا، وبقيت النقابة شامخة شاهدة على تمسك أبنائها بقيم وطنية ومهنية لا تفنى أبدا، هؤلاء الزملاء الذين يتوجهون إلى صناديق انتخابات النقابة قريبا وبرغم أنهم يواجهون ضغوطا اجتماعية صعبة وأجورا هزيلة وعلاقات عمل غير عادلة لن يصوتوا أبدا، كما علمنا تاريخ النقابة، على هذه القضايا فقط، فهولاء وفي طريقهم لصندوق الانتخابات يسكن وعيهم ووجدانهم موقف النقيب الراحل كامل زهيري وهو يخوض معركة رفض التطبيع مع إسرائيل ومحاولات السادات لتحويل النقابة لنادي اجتماعي، يسكن وعيهم اسقاط الصحفيين للقانون ٩٥ الملقب بقانون حماية الفساد وقت النقيب إبراهيم نافع، يسكن وعيهم صور شهداء المهنة من أحمد محمود للحسيني أبو ضيف لميادة أشرف، يسكن وعيهم جمعية ٤ مايو ٢٠١٦ التاريخية ودفاعهم عن هيبة نقابتهم وكرامة أبنائها، يسكن وعيهم رغبتهم في استعادة هيبة مهنتهم والحفاظ على كرامتهم، يسكن وعيهم قبل كل هذا وبعده مناخ عام حالي يفرض حصارا خانقا على الصحافة وعلى حقهم في حرية الكتابة والنشر. 

هي انتخابات نقابية، وهو صراع بين تيارات نقابية لكل منها رؤيته للعمل النقابي ولدور النقابة وتأثيرها، ولكنها تبقى انتخابات لها مذاقها المختلف، والأهم أن اتجاهات التصويت،لمن لا يدرك، لم ولن تنفصل أبدا عن الهم الوطني وقضايا الحريات والكرامة، بل إن الانتخابات، تاريخيا، تترجم بدقة مدى رضا الصحفيين عن المناخ العام داخل نقابتهم وخارجها.
--------------------
بقلم: عمرو بدر*
- عضومجلس نقابة الصحفيين

مقالات اخرى للكاتب

نقابة الصحفيين.. المبنى والمعنى





اعلان