13 - 05 - 2025

غرفة الإنعاش

غرفة الإنعاش

كنا نتلهف ونشتاق إليها ،اشتياق العاشق لمحبوبته بعد طول فراق ..تفوح شذى أحبارها، فنشعر بحالة من النشوة والسعادة لايمكن وصفها ، وكأننا نشم عطرا باريسيا معتقا من أجود أنواع العطور الفرنسية .

فور خروجها من المطابع ، يتسابق المولعون بالقراءة للحصول على نسخة منها، قبل أن ينقض عليها عشاقها من كل حدب وصوب ، لتختفى فى دقائق معدودات من بين أيدى بائعيها ، فيشعرون حينئذ بخيبة أمل تشبه صدمة المحب الولهان الذى واعدته محبوبته ، وبعد أن أضناه الشوق وطول الانتظار ، خذلته وذهبت لغيره ، فى وقت كان يمنى نفسه المتلهفة للأنس بها ومجالستها .

كنا نؤخر مواعيد نومنا للحصول على الجرائد التى تصدر فى ساعة متأخرة من الليل ، لالتهام حروفها وعباراتها الأنيقة قبل نفاذها، خاصة عدد اهرام الجمعة الذي كان يحتوى على الكثير من المقالات السياسية والأدبية والاقتصادية لكبار الكتاب والمفكرين من كافة الانتماءات والاتجاهات السياسية ، فنشعر وكأننا نتريض فى حدائق غناء مثمرة ، لانمل من الركض فى ساحاتها ودروبها المزدانة بكل مالذ وطاب من أنواع الفنون والسياسة والأدب . 

كان الواحد منا يضع تحت إبطة ثلاث جرائد أو أكثر كل واحدا منها يمثل اتجاها أو حزبا سياسيا : الأهرام وتمثل الحكومة ، جريدة الوفد وتمثل التيار الليبرالى، وجريدة الاهالى وتمثل تيار اليسار المصرى .

كانت قراءة هذه الجرائد مجتمعة ذات أهمية للقارئ الحصيف الذى يفتش عن الحقيقة الكاملة ، فمن خلال المقارنة بين محتواها يصل القارئ بإعمال عقله ، وبتحليل بسيط ، لما خفى من حقائق ، وماغاب من أسرار ، حاولت كل جريدة من الثلاث إغماض عينها عنها أو بالأحرى إخفائها بما يتفق مع انتمائها وسياستها التحريرية أو الحزبية.

هامش الحرية كان بسيطا ، لكنه كان جريئا وصادقا ، مما جعل جريدة الوفد وهى من أبرز صحف المعارضة من بين الصحف الأكثر انتشارا وتوزيعا خاصة فى عهد الكاتب الكبير مصطفى شردى صاحب المقالات النارية اللاذعة الموجهة ضد الحكومة.

تغيرت الأحوال وأصبحت صاحبة الجلالة مريضة من بعد قوة ، منكسرة بعد كبرياء وشموخ ، انصرف عنها مريدوها وعشاقها وهم كانوا بالملايين إلى بضع مئات من القراء وهم ثابتون على العهد معها لمجرد الإخلاص والوفاء لمواقفها معهم حيث أمدتهم لسنوات طويلة بالمعرفة والأخبار ، وانارت عقولهم ووسعت مداركهم.

صاحبة الجلالة واجهت خلال السنوات الأخيرة تحديات كبيرة حيث ظهرت المواقع الإخبارية وشبكات التواصل الاجتماعى التى سحبت البساط من تحت أقدامها ، كما كان لارتفاع أسعار الورق والطباعة والكهرباء والأجور ، والنقص الحاد فى الإعلانات أثرا كبيرا فى انحسار دورها .

المصيبة الكبرى أن عددا لايستهان به من الصحف والمجلات فقدت مصداقيتها أمام القارئ والذى تركها غير مأسوف عليها ، بعد أن أفسح بعضها المجال لثلة من الطبالين والمنافقين لينشروا غثائهم وأباطيلهم على صفحاتها بعد أن خلعوا ثياب العفة والحياء .

صاحبة الجلالة الآن فى غرفة الانعاش وهى مقبلة على موت سريري لامحالة إذا ظلت فى هذا الوضع المهين ، هى تئن وتتوجع وتستغيث بمن يمد يده إليها لينقذها مما ألم بها من مصائب ونكبات متتالية.

صاحبة الجلالة فى انتظار من يضعها على جهاز الإنعاش ليعيد إليها بريقها والقها ومكانتها التى توارات .

صاحبة الجلالة فى حاجة ماسة إلى أنابيب الحرية بعد أن ضاقت شرايينها وانسدت أمام هذا السيل الجارف من الأكاذيب ..الحرية وحدها هى الكفيلة بإعادتها إلى الحياة من جديد قوية عفية تساهم فى نهضة مصر وتقدمها .

إذا استمرت الصحف والمجلات فى هذا الوضع المزرى ، فعلينا أن نجهز سرادق العزاء ، ونستقبل جموع المعزين للعزاء فى صاحبة العصمة والسعادة والتى لم تصبح صاحبة الجلالة .

مقالات اخرى للكاتب

فتيات البحيرة واللغز المحير!