13 - 05 - 2025

آدم ونصفُ دنياه

آدم ونصفُ دنياه

فى الأدب، وُصِفَ الشعر بأنه (ديوان العرب). حَوى تاريخهم وأخبارهم. من يقرأ شعرهم يتعرف على تفاصيل حياتهم، أيام مجدهم وخذلانهم، هجائهم ومدحهم، غزلهم ومجونهم، فرحهم وأحزانهم، ضحكهم وبكائهم. يشاهد فخر عنترة العبسى وبطولاته وولعه بعبلة، ويبكى على قيس ولا ينسى ليلى، ويتألم للوعةِ أبى فراس الحمدانى من فاتنة فى الحى شيمتها الغدر، ويبتسم من قول المـُنخل اليشكرى، (أحبها وتحبنى ويحب ناقتها بعيرى)، ويتعجب من أُنسِ تأبط شراً، شاعر جاهلى اسمه ثابت ابن جابر، بالذئب وتوجسه من بنى البشر فى قوله (عوى الذب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطيرُ).

من هنا ظهرت مكانة الشعر والشعراء في المجتمع العربى. تباهت القبائل بشعرائها، كتبوا أشعارهم بخيوط الذهب وعلقوها على أستار الكعبة. اشتهر سوق عكاظ بكونه معرضاً أدبياً يتنافس فيه فحول الشعراء العرب، وما ان تُعلن القصيدة الفائزة حتى تنتشر في الآفاق، يُطيرها الرواة، فيخبروا بها النجم والشجر، والـمَدر والحضر، والسهل والجبل، والبر والبحر. الرواة هم أبواق الإعلام في ذلك الوقت، لا شبكة عنكبوتية، ولا مواقع تواصل اجتماعى، ومع هذا بقى الشعر تتوارثه الأجيال، تراثاً لا يقبل التفريط.

بمرور الزمن، ظهر الشعر الحر على يد بدر شاكر السياب في العراق، وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل في مصر، حيث لُقب الأخير بشاعر الرفض، عندما نشره قصيدته (أقوال جديدة عن حرب البسوس) معارضاً اتفاق كامب ديفيد فكتب (لا تصالحْ!.. ولو منحوك الذهب، أتُرى حين أفقأ عينيك، ثم أثبت جوهرتين مكانهما .. هل ترى..؟ هي أشياء لا تشترى). أحال استاذنا العقاد، هذا الشعر وأمثاله إلى لجنة النثر، وقت رئاسته لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، رافضاً بكل ما أوتى من قوة تصنيفه تحت بند الشعر. 

العقاد بما له من مكانة فريدة فى الأدب العربى، جعلت منه مفكراً وأديباً وشاعراً فريداً سابقاً لعصره، وفى نفس الوقت شاعراً سَلفى الطراز، يتمسك بقديمه. مارس العقاد معظم أبواب الكتابة وتفاوت حجم انتاجه، لكنه اكتفى من باب الرواية بواحدة، سارة، ضَمَنَها جانباً من سيرته الذاتية. مر على إصدارها نحو ثمانين عاماً، وتأبى أن تغادر مكانتها الفريدة كأحد فرائد تحليل النفس البشرية حيال الحب. 

ساهم تنوع وعمق وتفرد ثقافة الاستاذ العقاد ان تصبح الرواية تحليلا نفسياً لشخصية بطليها الرئيسيين، همام وسارة، أسباب ميل همام نحوها، حبه لها، وشغفه بها، آراء أصدقاءه عن سارة وتحذيراتهم المتكررة له، هواجسه وردود فعله، وغيرها من تفاصيل جعلت من الرواية أداة كشف أبعاد الشخصية الإنسانية القلقة إزاء مشاعر الحب بين شخصين توحى القراءة الأولى لشخصيتهما أنهما على طرفى نقيض، فكيف هاما ببعضهما البعض ثم افترقا. 

يكمن السر فى البعد الإنسانى، الذى يحركنا جميعا فنتناسى ماضينا وحاضرنا ومن نحن ومن نكون. فى الحب، تحكمنا رغباتنا الفطرية، نتناسى الحواجز المحيطة، وتلك القائمة خلف التلة الجاثمة على أول الطريق، نُغمض أعيننا عن حقائق علمية تؤكد أن قطع الجليد الطافية فى المحيط ليست سوى دلالة على وجود جبال تعترض المسار. نتحرك بدوافع تماثل قريناتها عند آدم وحواء، يعتقد كل منا أنه حالة خاصة، والواقع خلافُ ذلك. يقول نزار قبانى ناصحاً، (يا آدم ! حواء لا يروقها نصف الحضور، فإما أن تكون معها وإما ان ترحل). نصيحة لا أظنها أثمرت سوى مع آدم الأول، فلم يكن هناك ما يشغله سوى حواء. كانت نصف دنياه.
------------------
د. محمد مصطفى الخياط

[email protected]   

مقالات اخرى للكاتب

نوتردام.. تولد من جديد